آليتان في إنتاج الاستبداد: من الوعد الديموقراطي إلى واقع الطائفية! (ميشيل كيلو)
ميشيل كيلو
لا يعرف معظم بنات وابناء الجيل الذين هم اليوم في الخمسين من أعمارهم، وكذلك من ينتسبون إلى الأجيال الشابة الراهنة، إنه دارت في منتصف القرن الماضي معركة بعثية ضارية ضد الشيوعيين، تركزت جوهريا على نقطتين مهمتين هما: الحرية الفردية والشخصية، وإدارة الأموال والأملاك العامة لمصلحة المجتمع.
كان البعثيون يتهمون الشيوعيين بالعمل على إقامة مجتمع يتنكر للحرية العامة والخاصة، ووضع الملكية العامة في يد الدولة، من اجل انتاج بيروقراطية، ستشكل طبقة جديدة، تستأثر بالقسم الأكبر من الثروة الوطنية، تقوم على استغلال العمال والمنتجين وإن في مستوى مغاير للمستوى الرأسمالي الغربي.
في الشطر الأول، الخاص بالحرية، كان البعثيون يلحون على فكرة المواطنة وحق الفرد في أن يكون حرا بالمعنى الغربي/ البورجوازي للكلمة، الذي يعطيه الحق في حرية التعبير والتنظيم والاجتماع والأمن والعمل… الخ. اما في الشطر الثاني، فكانوا يقولون بملكية المنتجين المباشرة بدل ملكية الدولة لوسائل الانتاج، ويدعون إلى مجتمع يسيّر نفسه ذاتيا ولا تسيره بيروقراطية دولة تتحكم بكل شيء فيه، وتعي نفسها كطبقة جديدة يتعارض وجودها مع ما تدعو الماركسية إليه أو تدعيه من بناء مجتمع غير طبقي.
أُذَكِّر بهذه الوقائع لاؤكد على امرين: ان نظام البعث السوري حقق خلال الأعوام الخمسين المنصرمة وفي أسوأ الصور التي يمكن تخيلها، ما كان ينتقد الشيوعية بسببه، فقد الغى الحرية في جميع تعابيرها وأشكالها العامة والخاصة، والغى حقوق الانسان بما في ذلك حقه في الحياة والعيش والأمان، ووضع يده ليس فقط على الأموال والثروات والأملاك العامة، بل كذلك على ملكيات المواطنين الشخصية، وابتكر أشكالا من الاستغلال لم تخطر ببال من كانوا يستمعون إلى وعوده أو عاشوا تحت سيطرته، من ذلك مثلا ما يعرفه جميع السوريين الذين باعوا ما فوقهم وتحتهم كي يشتروا «ميكروباصا» صغيرا أو شاحنة «سوزوكي» ليعتاشوا منها، من دون ان تقدم السلطة لهم أي عون أو أية تسهيلات، لكنهم وجدوا أنفسهم يدفعون حوالي 60% من دخلهم السنوي على شكل ضرائب للمالية ورشى لرجال الأمن والشرطة، بينما دفع مستوردو السيارات أنفسهم معظم ارباحهم لمن فرضوا أنفسهم عليهم كشركاء من رجال السلطة، مقابل حمايتهم وتمكينهم من بيع السيارات بالسعر الذي يحددونه ويعود عليهم باعظم هامش ربح ممكن.
السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: لماذا حدث هذا الفشل في تحقيق اي وعد من الوعود التي قدمها البعث للشعب؟ ولماذا انتقل نظامه السوري من وعد المواطنة والحرية، والملكية المجتمعية المباشرة لوسائل الانتاج إلى نقيضهما: إلى صورة قريبة جدا مما عرفه معسكر السخرة والاعتقال الستاليني في روسيا السوفياتية؟
اعتقد أن هناك اسبابا كثيرة لتفسير ما وقع، أظن ـ والله اعلم ـ أن اهمها ترتب على هزيمة حزيران، التي ترتبت، بين اسباب عديدة، على فترة تناقضات وصراعات وفقدان اتجاه، بعثت قدرا كبيرا من الارتباك والحيرة في جماعة وجدت نفسها تمسك السلطة بعد الثامن من آذار العام 1963، من دون أن تكون لديها خطط عملية ورؤية استراتيجية لإدارة المجتمع والدولة، تمكنها من تنفيذ الوعود التي قطعتها على نفسها.
لنترك جانبا عناصر النقص التي شابت وعي البيئة المجتمعية الريفية التي تحدر منها معظم قادة البعث، خاصة العسكريين منهم، واشاد ماركس في البيان الشيوعي بالرأسمالية لأنها تقضي ما تنتجه من «بلاهة فلاحية». ولنقف قليلا عند صراعات البعثيين بعضهم ضد بعض، وعند المحاور الثلاثة التي تبلورت حول مسائل ثلاث هي :ضرورة إعادة الوحدة مع مصر، لأن البعث أشد عجزا من أن ينجز أي شيء بمفرده، وقد مثلها محمد عمران، وحتمية بناء مجتمع اشتراكي وقد مثلها صلاح جديد، وبناء نظام سلطوي يعيد إنتاج الدولة والمجتمع طبقا لحاجات الطبقة الممسكة بالسلطة، ومثلها حافظ الأسد، الذي صفى محمد عمران في طرابلس، وصلاح جديد في السجن، واعاد بناء الحزب انطلاقا من تبعيته للمؤسسة العسكرية التي استعملها لبناء سلطوية حققت عكس وعود البعث، فقضت على الحرية بجميع صورها وتعابيرها، وجعلت كل ملكية في سوريا ملكية لها: سواء بوضع يدها عليها أو بإدارتها أو بالسلبطة.
أين كمن جوهر النظام السلطوي؟ أعتقد أنه تجلى في مسألتين مهمتين هما: نفي المواطنة وصفة الفرد الحر عن السوري، وبالتالي نفي حقوقه العامة والفردية، الخاصة والشخصية من جهة، وإنتاج المجتمع بما يجعل منه تكوينا يتم التمييز بين مكوناته حسب قربها وبعدها من السلطة، التي استندت من الآن فصاعدا على تكوينات ما قبل مجتمعية / ما قبل وطنية، احتلت الساحة السياسية بجميع طوابقها، وألغت المجتمع كتكوين جامع يتشكل من مواطنين، هم ذوات حرة متساوية أمام القانون، الذي الغته بدوره كحاضنة حقوق لهؤلاء. باختصار: بدل أن تستند السلطة في الدولة إلى المجتمع الذي ينتجها باختياره الحر، أقيم نظام أسند الكسور المجتمعية المرصوفة إحداها قرب الأخرى على السلطة باعتبارها منتجا وحيدا لسياسة خلت من الآن فصاعدا من الشأن العام والمواطنة، وتحولت إلى ميدان تنشط فيه مافيات متخصصة في مختلف المسائل والقضايا، تغطي فاعليتها مختلف ميادين وقطاعات دولة غدت سلطوية وفقدت أواصرها الايجابية مع مجتمع فقد حضوره ودوره فيها، ولم تبق له أية مصالح مصانة في صورتها السلطوية القائمة.
هكذا تلاشى المجتمع الموحد وحل الآن مجتمعان: مجتمع خاص بالسلطة هو حاملها وحاضنتها، يتكون بصورة حصرية من تكوينات ما قبل مجتمعية تم تحديثها وتنظيمها أمنيا، أنيط بابنائها إدارة البلاد والعباد، وتعظيم الهوة بين سلطة تستند أساسا إلى المنتسبين إلى أجهزة أمنية وعسكرية وعاملين في الحزب ينتمون في غالبيتهم الى هذه التكوينات، ومجتمع البشر العاديين، العاملين والمنتجين، الذي هو مجتمع عمال سخرة واجراء يفتقر إلى جميع انواع الحقوق، على عكس مجتمع السلطة الأمني، الذي يخضعه بجميع وسائل القوة والقسر.
لم يعد هذا المجتمع يطيق ان يذكره احد بالوعود، التي كان قد نال شرعيته من التعهد بتنفيذها. وطور بدلا منها شرعية جديدة تركزت على جانبين: وجود معركة يخوضها دفاعا عن الدولة والمجتمع السوريين، اللذين انتفى وجودهما في ظل النظام السلطوي وبسببه، وصيانة العلمانية من المذهبية، وهذا زعم يبطله ارتكاز النظام على ما اسميته تكوينات ما قبل مجتمعية / ما قبل وطنية هي الطوائف،التي مثل قسما منها وأدخل نفسه في معركة دائمة مع قسمها الآخر، الأغلبي، الذي اتهمه بالأصولية ويا لمفارقات الكذب، بالطائفية بوصفها سمة لصيقة به لا يستطيع الانفكاك عنها او الخروج منها.
لندع الآن جانبا مسألة الدفاع عن دولة ومجتمع سوريا، ولنذكر فقط بأن سنوات النظام الأولى شهدت احتلال اسرائيل للجولان، وأنه مر على هذا الاحتلال نيفا وخمسة واربعين عاما، رفض النظام فعل أي شيء خلالها لزحزحة العدو المحتل عن صدر وطنه وعاصمته، مما جعل من سوريا دولة منتهكة ومنقوصة السيادة. ولنتحدث عن علمانية النظام القائمة على أرضية ما دون دينية، أي طائفية، يستحيل فهمها إلا بوصفها نفيا للدين كجامع روحي لمؤمنين ينتمون الى مذاهبه المختلفة.
لا تستحق العلمانية السلطوية اسمها تحت أي معنى نعرفه للعلمانية، لكونها تخلو من الإنسان، ناهيك عن مكانته المركزية كذات حرة تلزمنا برؤية كل موجود بدلالته. إذا أضفنا إلى ذلك حقيقة أن العلمانية كانت نتاج ثورة ثقافية ممتدة محورها مركزية مكانة الإنسان من الوجود، وإعادة تعيين العلاقة بينه وبين الله، قطب الوجود الآخر، الذي لم تبطل الإيمان به والحاجة إليه، سواء بالنسبة إلى الإنسان الفرد أم إلى الجماعات، وتذكرنا أن العلمانية السلطوية تخرج الإنسان من الشأن العام، والثقافة من المجال العام، وتغيب الحرية عنه وعنهما، وأنها تستند إلى تكوينات نافية للمجتمعية كعلاقة تعاقدية بين أفراد احرار، تكون هذه العلمانية المزعومة دين سلطة يستبدل رموز الأديان برموزها، التي تكتسب قداسة مضاعفة سياسيا وطائفيا: بعد أن تنحدر بالدين والقيم من عالم إنسان حر هو مركز الوجود، إلى عالم وثنية ترغم البشر على عبادة أشخاص، ومن رحاب الحرية وما تنجبه من مجتمعية طليقة الى ضيق الاستبداد وازدراء الحياة وقيمها.
نحن هنا، في هذا المثال السوري، امام الواقع وقد انتزع من إهابه الحقيقي وفقد هويته الأصلية، وشحن بما يحول دون عودته إلى حال الطبيعة، اي حالته الطبيعية، فلا عجب أن تثير المعايير التي تسيره قدرا عظيما من الاضطراب والمقاومة لدى الخاضعين له، وأن تفضي إلى تلاشي وموت كل ما هو نبيل في مجتمع البشر، الذي يغرق في شقاء لا يني يتعاظم، يطاول جميع مناحي واركان وجوده المادية والمعنوية. اليس أمرا طبيعيا أن يكون هذا التطور قد قام على تشويه معنى ووظائف الدولة والمجتمع، وعلى نفي وجود المواطن كإنسان حر، ونفي القيم التي لا تربطه بنظام المذهبية الطائفية ورموزه المقدسة؟
كان الوعد يقدم البعث كقوة تتخطى الانتماءات الدنيا والجزئية، وترتبط بالامة كحقيقة متجاوزة للوطنية، التي حملها اسما تحقيريا هو «القطرية». وها هو الواقع يكشف بطريقة فاضحة آليات انحداره من عالم وعود وردية اغرتنا بـ«الوحدة والحرية والاشتراكية»، إلى عالم مقيت يسند التحديث إلى تكوينات نافية له، ويلغي بالسلطة طابع الدولة المجتمعي، وينفي المواطنة عن رعاياه بنفيه الإنسان كذات حرة وتنمي الدولة حريتها، وينفي الدين السماوي لصالح دين سلطوي يشخصن اربابه ورموزه، هو في الوقت نفسه دين تدميري يرغم البشر على الخضوع له بقوة الأجهزة الأيديولوجية والقهرية، وعلى التعامل معه بوصفه دينهم الجديد، والوحيد.
بدأ تحول وعد الحرية والوحدة والعدالة إلى واقع طائفي عند نقطة محددة هي انقلاب النظام السلطوي على مبدأ المواطنة كناظم للحياة العامة ولعلاقة الدولة مع من هم تحت سلطانها، وتركيزه على السلطة بوصفها حقل العمل العام الوحيد، الذي يجب انتاج السياسة والمصالح والتعاقدات الفردية والعامة انطلاقا منه، يتهدده خطر وحيد هو الحرية. في هذه النقطة المفصلية بالذات يكمن الانزياح نحو المأساة التي نعيش اليوم أفظع فصولها واكثرها خروجا على القيم الإنسانية والوطنية.
صحيفة السفير اللبنانية