أبو تمام أم البحتري
خطر لي و أنا أراجع شعر الوصف عند البحتري و أبي تمام في وصف الربيع أن أسأل نفسي: أي من هذين الشاعرين الكبيرين كان أبرع في هذا الموضوع؟ فإذا بي أمام مقارنة جديرة حقا بالإنتباه هي أن أشرك القراء هنا في هذا التحليل لتجربة شعرية في موضوع واحد لشاعرين من عصر واحد . و كأنني كنت آمل أن يعوّد القارئ نفسه على هذه المقارنة شحذا للذوق و الثقافة لديه بعيدا عما يمر في بلادنا من متاعب كي يذكر الناس المهمومين بأنهم بشر و ليسوا مجرد حيوانات مفترسة في غابة . و إليكم الأبيات التي أشرت إليها ، بقول البحتري:
أَتاكَ الرَبيعُ الطَلقُ يَختالُ ضاحِكاً مِنَ الحُسنِ حَتّى كادَ أَن يَتَكَــــــلَّما
وَقَد نَبَّهَ النَيروزُ في غَلَسِ الدُجى أَوائِلَ وَردٍ كُنَّ بِالأَمسِ نُــــــــوَّما
يُفَتِّقُها بَردُ النَدى فَكَأَنَّــــــــــــــــهُ يَبُثُّ حَديثاً كــــــــــانَ أَمسِ مُكَتَّما
وَمِن شَجَرٍ رَدَّ الرَبيعُ لِباسُــــــــهُ عَلَيهِ كَما نَشَّرتَ وَشياً مُنَمــــــنَما
أَحَلَّ فَأَبدى لِلعُيونِ بَشاشَــــــــــةً وَكانَ قَذىً لِلعَينِ إِذ كانَ مُحــــرَما
وَرَقَّ نَسيمُ الريحِ حَتّى حَسِبتَـــهُ يَجيءُ بِأَنفاسِ الأَحِبَّـــــــــــــةِ نُعَّما
فما يحبس الراحَ التي أنـت خِلّهـا مـا يمنـع الأوتـار أن تَـتـرنـمـا
شرح بعض المفردات:
النيروز: هو عيد الربيع المعروف في بداية آذار .
الغلس : ظلمة آخر الليل
أحل : دخل في شهر الحلال عند الحج.
أحرم : دخل في شهر الحرام أي التعري من الألبسة أثناء الحج
أما أبو تمام فقد قال في وصف الربيع :
يـا صـاحـِبَـيَّ تـَقـصَّـيـا نَـظـرَيـْكُـمَـا تـريـا وجـوهَ الـأرضِ كـيـفَ تـصـورُ
تـريـا نـهـاراً مشــمـسـاً قـد شـابـهُ زهـرُ الـُربـا فـكـأنــمـا هــو مـقــمـرُ
دنـيـا مـعـاشٌ لــلــورى حـتـى إذا جــلـيَ الـربـيـعُ فـإنـمـا هـيَ مـنـظـرُ
أضـحـتْ تـصـوغُ بـطـونـهـا لـظـهورها نَــوْراً تــكـادُ لــه الــقــُلـوبُ تـُنَــورُ
مِــن كــل زَاهِــرَة ٍ تـَرقـْرَقُ بـالـنـَّدَى فــكــأنـهـا عـيـنٌ عـلــيــهِ تـحـدرُ
حـتّـَى غَـدَتْ وَهَــدَاتُـهـا ونِــجَــادُهــا فِـئـتـيـْنِ فــي خِــلَــعِ الـرَّبـيـع تَـبـَخْـتَـرُ
مـنْ فــاقــعِ غــضَّ الـنـبـاتِ كــأنــهُ دُرٌّ يـُشَـقّـَقُ قَــبــْلُ ثُــمَّ يــُزَعْــفَــرُ
أو سـاطــعِ فــي حــمــرة ٍ فـكـأنَّ مـا يــدنــو إلــيــهِ مــنَ الـهـواءِ مـعـصـفـرُ
نلاحظ أول ما يلفت إنتباهنا أن البحتري يتعامل مع الربيع كأنه كائن بشري يطل علينا في زمن محدد في حين أبو تمام يتعامل مع الربيع كمنظر للطبيعة جميل ، و بهذا المعنى يبدو فصل الربيع عند البحتري كإنسان – لا كمنظر للطبيعة – يتحرك مختالا ضاحكا و كأنه ينطق كلاما لطيفا، ثم يمد يديه الباردتين – من أثر فصل الشتاء السابق للربيع كي يدفع للطبيعة بأن تبوح بأسرارها ، و ترتدي ثيابا موشاة بالتطريز المغمغم و هكذا يشارك هذا الكائن الضاحك البشر في هذا المهرجان بشرب الراح و بعزف الموسيقا على الأوتار.
أما أبو تمام فهو يتعامل مع الربيع جيولوجيا إذا صح التعبير أي كمجرد منظر خاص للطبيعة يبدو فيه النهار مشمسا تخالطه الأزهار فتغدوا الدنيا التي كانت خلال الفصل السابق مجرد فصل لمساعي البشر في كسب عيشهم إلى أن تغدوا أشبه ما تكون بلوحة جميلة تظهر فيها النباتات المزهرة و عليها الندى الشبيه بقطرات الدمع – أو لمنبع ماء- ثم يتابع وصفه مشبها الأزهار بجواهر تتنوع ألوانها بين الأحمر الساطع و الأخضر الزعفراني …
في هذه المقارنة نكتشف أن البحتري تفوق في أدائه الفني لأنه من عند البيت الأول يضفي على الطبيعة في الربيع روحا خاصة بالإنسان حين يعبر عن فرحه بالحياة في حين إكتفى أبو تمام بوصف الألوان في منظر للطبيعة …
فهل أنتم معي في هذه المقارنة أم لا ؟ لكم أرجو أن يكون لكل قارئ لهذه المقارنة أن يبدي لي رأيه موافقا كان معي أم غير موافق ؟؟.