أحمد عبد المعطي حجازي: الوصيّ في وحدته

أحمد عبد المعطي حجازي في الثمانين. «أصغر فرسان الكلمة» لم يعد كذلك، صار شيخاً، لا يقبل التجديد ويحاربه، يخوض معاركه وحيداً، لأنه يقف عند زمن آخر، لم يعد «تاريخ مع المعارك» كما يقدم نفسه، بل أصبح تاريخاً من التناقضات.. الشاعر الذى قام مشروعه الشعري على العروبة والناصرية يقف الآن في خندقه النثري ضد العروبة والناصرية، ليس هنا بدافع مراجعة الأفكار، ولكن لأن الحية التي لا تغير جلدها تهلك.. هكذا سيقف صاحب مدينة بلا قلب في أول صفوف «ثورة يوليو».. مبشراً ومدافعاً، سيكون أول القافزين من السفينة عندما تميل منتظراً في بيت السادات أن يمنحه منصب صلاح عبد الصبور (بعد موته).. سيحارب معارك سلطة مبارك، كما تريد سلطة مبارك لا كما يريد المثقف.. سيكون في مقدمة المبتسمين للإخواني محمد مرسي، يزوره في قصره، ويضحكان سوياً في افتتاح معرض الكتاب.. الصورة لا تكذب.. لم يقل حجازي شيئاً في هذه اللقاءات.. وهكذا أيضاً سيكون في المقدمة عندما يصل السيسي إلى القصر… لا شيء يتغير، سيتحدث أمام الجميع بنفس الحماسة، بالكلمات ذاتها.. المختلف الرئيس الذى يخاطبه. إنه أشبة بلاعب السيرك، ولكن ليس مطلوباً منه أن يخطئ!

عندما اندلعت ثورة 25 يناير، كان حجازي في باريس، راقب الموقف من بعيد وانتظر النتيجة، وعاد لا ليؤيد الثورة، بل ليصبح شاعرها، أصدر بعد توقف ربع قرن ديوانه «طلل الوقت»، كان يمكن أن تكون عودته حدثاً استثنائياً. عاد شاعراً للثورة ولكن الثورة كانت قد تجاوزته، لم تكن حساسيته في ديوانه «طلل الوقت» سوى تأكيد لمفهوم الوصاية الأبوية التي قامت الثورة من أجل إنهائها.

تاريخ من المعارك

يصف حجازي نفسه بأنّه تاريخ من المعارك والتحوّلات. إبن الريف الآتي من تلا إحدى قرى المنوفية (شمال العاصمة) إلى القاهرة التي «بلا قلب»… مغنّي الثورة والعروبة – المقرّب لفترة من النظام العراقي السابق ومنشد مشروع الدولة الجديد… هو نفسه الذي أعلن بعد ذلك بحماسة: «لا نريد قومية عربية على طريقة جمال عبد الناصر»! لكن في كل تحوّلاته ومعاركه، وقف حجازي ببسالة مدافعاً عن آرائه، ممتلكاً شجاعة إعلان التحوّل في مساره!

ويظلّ صاحب «مدينة بلا قلب» إشكاليّة مركّبة، ومساره الصاخب يبقى محل تساؤل: هل رافقت تحولاته حركة تطوّر الأفكار واتساع الثقافة في العالم؟ أم أنّها مجرّد تخبطات مثقف مأزوم يبحث عن موقعه داخل السلطة؟!

لم يكن حجازي (1935) قد تجاوز العشرين عندما دخل أولى معاركه مع الشاعر والمفكّر عباس محمود العقاد، أشهر وألمع الأسماء في خمسينيات القرن الماضي. كان العقّاد يرى أنّ ما يكتبه الشعراء الجدد مثل صلاح عبد الصبور وأحمد حجازي ليس سوى عبث نثري، ورفض مشاركتهم في مهرجان للشعر في دمشق. وقتها، كتب حجازي قصيدةً شهيرةً في هجاء العقاد… ومرّت الأيام، فوجد حجازي نفسه في مقعد العقاد، مقرراً للجنة الشعر في مصر… وإذا به، في تعامله مع قصيدة النثر، يفعل أسوأ من الشاعر الكلاسيكي الذي احتقر قصيدة التفعيلة حين بدأ يكتبها حجازي! وعندما سألناه: هل أصبح عقاداً جديداً؟ أجاب: «الصراع بين الجديد والمحافظ، سمة كل عصر. لكن الفرق بيني وبين العقاد أنّه استخدم سلطة الدولة لمواجهة النص الذي كنّا نكتبه. أظن بأنّني لم أستخدم سلطة الدولة لفرض تصوراتي».

سافر الشاعر إلى باريس مطلع السبعينيات، بعد خلاف مع نظام السادات، متأثراً بصديقه لويس عوض الذي كان «نافذته على العالم الخارجي». وعندما عاد بعد عقدين، كانت الدولة قد بدأت معركتها مع الإسلاميين، وحشدت لها كل طاقاتها. المثقفون دخلوا المعركة إلى جانب الدولة، لإحساسهم بالخطر، فإذا بهم ـ من حيث لا يدرون ـ أدوات في يدها، وغطاء لبطشها، يعطيها الشرعية التي تفتقر لها.

إبداع

هكذا عاد حجازي من باريس كاتباً لمقال أسبوعي في صحيفة «الأهرام»، ورئيس تحرير «إبداع» المجلة التي شكّلت مكاناً لمعارك حجازي. منذ العدد الأول كتب مقالته الشهيرة «صفوة وحرافيش» قسّم فيها المبدعين إلى صفوة (يُسمح لهم النشر في «إبداع») وحرافيش (لا يحق لهم النشر)، وكانت تلك معركته الأولى مع المثقفين، فقاطع معظمهم المجلة، ولا سيما مبدعي الأجيال الجديدة. ظل حجازي في إبداع لأكثر من ربع قرن، رافضاً أن يتركها لجيل جديد، حتى أجبر مؤخراً على تركها. وبالطبع لا ينسى الكثيرون ما جرى في ملتقى الشعر الثاني بالقاهرة 2009 عندما كان حجازي رئيساً للمؤتمر، يختار الضيوف ولجنة التحكيم.. ومنح الجائزة في النهاية.. ما ألقى بعلامة استفهام كبيرة حتى الآن… حجازي الآن في وحدته يخوض نفس معاركه القديمة، بلا كلل ولا ملل… يمحو بالنثر مشروعه الشعري، طموحه أن يقيم صالوناً ثقافياً يحمل اسمه، بناء على تعليمات السيد الرئيس، ربما يستطيع أن يجمع الشباب حوله، يلقي عليهم وصاياه وتجاربه… ربما يظن أن الوصاية لم تسقط بعد!

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى