أخطاء إسرائيل البحريّة تلاحق أمنها: نحو تهدئة المواجهة مع إيران؟
في إطار ردِّ فعل على ردّ الفعل الإيراني، تشير التقديرات إلى أن إسرائيل أقدَمت، وفق التسريبات الإعلامية، على استهداف ناقلة تجارية إيرانية في شرق المتوسّط. استهدافٌ تستكمل تل أبيب من خلاله الضغط على طهران وحلفائها ضمن ما تسمّيه «المعركة بين الحروب». لكن مواجهة تبعات المنازَلة البحرية التي افتتحتها إسرائيل، تضع هذه الأخيرة أمام واقع تسبّبت به لنفسها نتيجة سلسلة أخطاء تقديرية.
لم يَصدر إقرار رسمي إسرائيلي ــــ ولا يُتوقَّع صدوره ــــ بصحّة تقارير إعلامية تحدّثت عن استهداف تل أبيب ناقلةً تجارية إيرانية في شرق المتوسّط. إلّا أنه يُقدَّر، إلى حدّ الاطمئنان، أن تل أبيب هي التي استهدفت الناقلة، في سياق ردِّ فعل على ردِّ فعل إيراني آخر تسبّبت به إسرائيل نفسها، بعدما استهدفت سفناً إيرانية وغير إيرانية كانت متّجهة إلى سوريا. على أن الأمر لا يتعلّق بمواجهة عسكرية أو أمنية عبر حملة على السفن التي قيل إن إسرائيل استهدفتها في المتوسّط أو البحر الأحمر، بل هو نوع من استكمال الحصار على سوريا والضغط على إيران، عبر أفعال عدائية تشوّش خطط الجمهورية الإسلامية لمساعدة حليفها السوري اقتصادياً، ردّاً على حصار جائر يطاول الجهتَين معاً.
وفقاً للتقارير، التي لا تنقصها صدقيّة كما يبدو، كانت إسرائيل هي الجهة التي باشرت فتْح الساحة البحرية على الاشتباك، وإدخالها في الحرب الدائرة بين المحورَين في المنطقة، ليَعقب اعتداءَها هذا ردٌّ إيراني ــــ تحدَّث عنه الإعلام بلا إقرار رسمي من جانب طهران ــــ، تَبِعه ردّ على الردّ من جانب إسرائيل. الردّ الأخير كُشف عبر تسريبات في تقارير متعدّدة، وبأسلوب تسريب مختلف، مع التأكيد أن تثقيل اليد الإسرائيلية على الزناد أدّى إلى ضرر لم يكن محسوباً لدى تل أبيب، متمثّل في تسرُّب كمّيات من النفط طاولت شواطئ فلسطين المحتلة في منطقة حيفا وجوارها، وصولاً أيضاً إلى الشاطئ اللبناني جنوباً. هكذا، انقلبت النتيجة عملياً، إذ بدا أن إسرائيل استهدفت نفسها في سياق استهداف الناقلة، بينما استكملت الناقلة طريقها إلى سوريا.
إلّا أن الفعل نفسه، وتوسُّع نتيجته، وتفاصيل أخرى متّصلة به، ليست موضع اهتمام كبير، وإن كانت في وجه من وجوهها ذات أهمّية، إنّما ينصبّ البحث على ما إذا كان الجانبان، إيران ومَن معها من حلفاء وإسرائيل ومَن معها من حلفاء، في مسار مواجهة بحرية تفضي إلى سلسلة ردود مختلفة، تتصاعد وفقاً لتقديرات الطرَفين لإمكانية استثمارها في الحرب القائمة بينهما. وكما قيل في تقارير سابقة، فإن التهديد البحري مُثار من قِبَل إسرائيل، ضمن توقُّع لدى أجهزتها الاستخبارية بأنها بما لديها من تموضع وقدرات، وما لدى أعدائها من تموضع وقدرات في المقابل، تستطيع مباشرة حرب بحرية ضدّ سفن مدنية وتجارية إيرانية أو مملوكة من إيران، ضمن ما تسمّيه “المعركة بين الحروب”، التي من شأنها إضعاف سوريا وتبعاً لها إيران، وأيضاً في السياق، أعدائها الآخرين في المنطقة، وفي مقدِّمهم “حزب الله” في لبنان.
الواضح أن تقديرات إسرائيل، لدى بدء هذه المواجهة، كانت مشبعة بالأخطاء؛ إذ لو قدَّرت أنها ستواجِه ردّاً وسلسلة ردود لاحقة، مع إمكان توسُّع المواجهة، لما كانت قد أقدمت على استهداف الناقلات الإيرانية وغير الإيرانية المتّجهة إلى سوريا. ذلك أن إسرائيل لا تقوى، مهما أرادت أن تُظهر نفسها على هذا النحو، على مواجهة تبعات حرب بحرية تكون ناقلاتها هي، ثمناً ووقوداً لها، مع أو من دون القدرة على الإيذاء المقابل.
هنا، من المفيد التذكير بأن الحدّ الفاصل بين أفعال إسرائيل وامتناعها عنها في وجه أعدائها، هو القدرة على احتواء أو تجاوز ردّات فعل الطرف الآخر على اعتداءاتها، سواء كانت ابتدائية أو ردّاً على عمليات مبادَر إليها. قد تتداخل في بلورة القرارات، وصولاً إلى اتّخاذها وتنفيذها، جملة اعتبارات من شأنها أن تحثّ أو تلجم القرارات الإسرائيلية، إلّا أن أهمها وأكثرها تأثيراً هو مستوى وحجم الإيذاء المقدَّر في أعقاب الفعل الاعتدائي الإسرائيلي. وتتعلّق هذه المعادلة بكلّ ما يرتبط بإسرائيل من ساحات تهديد، سواء كانت محيطة بها أو بعيدة عنها نسبياً أو كلّياً، وإن كان في موضع الشاذّ عن المعادلة، بطبيعة الحال، ما يرتبط بعملياتٍ لصدّ تهديدات وجودية أو من شأنها أن تتحوّل إلى وجودية، وهي ما يمكن، بل ويجب، تجاوُز ثمن أيّ ردّ فعل عليها.
لا يعني ذلك أن بإمكان إسرائيل أن تبادر إلى التحرُّك مهما كانت الأثمان، لمجرّد تقدير وجود تهديد من هذا النوع. إذ إن المسافة بين إمكان وجود التهديد ووجوده الفعلي كبيرة جداً، ودونها وجوب تشكُّل عوامل ومركّبات مادّية وزمنية وإرادة تفعيل لاحق للتهديد لدى الطرف الآخر، تفضي في نهاية المطاف إلى التحرُّك، مهما كان الثمن ردّاً على التحرُّك. والهدف من استهداف السفن، إسرائيلياً، لا يتعلّق بردّ حتمي، بمعنى وجوب الاستهداف من دون تفكير بالتبعات لردّ هجمة أو تهديد وجودي، إذ إنه استهداف يدخل، كما ورد هنا، ضمن “المعركة بين الحروب”، بمنحى اقتصادي هذه المرّة وليس عسكرياً مباشراً، وإن كانت نتيجته تخدم، بطبيعة الحال، المواجهة العسكرية نفسها للحؤول دون تحصيل سوريا وحلفائها قدرات متعاظمة.
كانت إرادة استهداف السفينة التجارية الإيرانية، كما يرد من تسريبات، محدَّدة جدّاً بإصابة رمزية تُعدُّ رسالة إلى الجانب الإيراني على أمل ردع طهران عن مواصلة ردِّها البحري الذي بدأته أخيراً. لكن الفشل في إيصال رسالة التحذير، وتَحوُّلها إلى ردّ كامل كان سيفضي إلى كارثة، أدّيا إلى تقريب التهديد الإيراني غير المعلن، وفقاً للتقارير الأخيرة. وعليه، يبدو أننا أمام واقع مواجهة مقبلة تسبّبت بها إسرائيل لنفسها عبر استهداف السفن المتوجّهة إلى سوريا، نتيجة سلسلة أخطاء تقديرية: تقدير خاطئ لجدوى الفعل، وتقدير خاطئ لثمن الاعتداءات، وتقدير خاطئ، وهو الأهمّ، لإمكان جرّ إسرائيل نفسها إلى مواجهة بحرية من شأنها أن تكون هي الجهة الخاسرة فيها، ربطاً بعدّة عوامل ومركّبات تضع إسرائيل في موقع أدنى.
على هذه الخلفية، شدّد مسؤولون رفيعو المستوى في المؤسسة الأمنية في تل أبيب على وجوب العمل على تهدئة التوترات البحرية مع إيران، وأوصوا، في نقاشات مغلقة، كما ورد في موقع “واللا” الإخباري أمس، بمراعاة واقع أن الطريق البحري من آسيا إلى إسرائيل حسّاس بشكل خاص، وتحديداً في منطقة هرمز، حيث تعرف في العقد الأخير بأنها منطقة الردود الإيرانية. ووفقاً للمسؤولين الأمنيين أنفسهم، يمكن أن تتدهور الأمور بسهولة مع الجانب الإيراني. وبحسب مصادر أمنية أخرى، في حديث إلى موقع “واللا”، فإن رئيس الأركان، أفيف كوخافي، يؤيّد، من جهته، اتّباع نهج أقلّ حدّة، والسعي إلى تهدئة التوتّر البحري المتنامي مع الإيرانيين.
وكانت المواجهة البحرية مع إيران مدار بحث ونقاش خاصَّين لدى المؤسسة الأمنية الإسرائيلية في الأسبوعين الماضيين، اللذين شهدا تبادل اتهامات بين الجانبين. ومن بينها اتهام طهران لتل أبيب بالمسؤولية عن استهداف سفينة تجارية إيرانية في شرق المتوسّط، الأمر الذي صمتت إسرائيل الرسمية عنه حتى الآن، بل إن وزير الأمن، بني غانتس، الذي علّق على “المواجهة البحرية”، رفض الإقرار بمسؤولية إسرائيل عن استهداف السفينة الايرانية، وقال إن إسرائيل تعمل على إحباط تحرّكات إيران المشبوهة في البحار، لكنه امتنع عن التعليق على الحادث الأخير. وقال: “نعمل على تعطيل عمليّات نقل الأسلحة من إيران والأشياء المتعلّقة بالأسلحة والقدرات العسكرية في الجو والبحر والبرّ”. وأضاف: “لا أقول إن كنّا قد فعلنا أيّ شيء أو لم نفعل شيئاً. من واجبنا أن نتحرّك ضدّه وسنواصل القيام بذلك. إسرائيل ليست مسؤولة عن التسرّب النفطي الذي أدّى إلى كارثة القطران على الشواطئ”. هل رفْض غانتس الإقرار مردّه الخشية من الإقرار نفسه وتبعاته على المواجهة البحرية، أم الفشل العملياتي والتسبُّب بتلويث الشواطئ، ومن بينها الإسرائيلية؟
أهم ما يرد من أسئلة هو: هل تواصل إسرائيل حرب استهداف السفن في الجبهة البحرية ضدّ إيران؟ يبدو أن الأمور لم تَعد مرتبطة فقط بقرار إسرائيلي، وإن كانت هي التي ابتدأت المنازلة البحرية مع الجانب الإيراني.
صحيفة الأخبار اللبنانية