أدوار مراكز التفكير ومهامها
حتّى وقتٍ طويل، ظلّت مسألة تعريف المؤسّسات البحثية تُثير إشكاليّات عدّة لأولئك الذين يبحثون عن وصفٍ دقيق ناجز وجاهز للأشياء. وعلى الرّغم من أنّ عبارة “Think Tanks” كانت تُستخدَم في الأصل في الولايات المتّحدة الأميركية خلال الحرب العالمية الثانية للإشارة إلى قاعة آمنة أو بيئة مُلائِمة يلتقي فيها خبراء الشؤون الدّفاعية والمُخطّطون العسكريون لمناقشة المسائل الاستراتيجية والتكتيّة المرتبطة بها، فإنّ المصطلح نفسه ظلّ يُستخدَم منذ ذلك الحين لوصف أنواعٍ مختلفة من المؤسّسات المنخرطة في نشاط السياسة وتحليل مرتسماتها.
ثمّة غموض يُحيط بتعريف مراكز البحث والدراسات أو “Think Tanks”؛ فتعريف هذه المراكز لا يزال محلّ خلاف، نظراً إلى أنّ معظم المؤسّسات والمراكز المُنتمية إلى مجال البحث، لا تُعِدّ نفسها من صنف الـ”Think Tanks” في وثائق تعريف الهويّة الذاتية، وإنّما تُعلن عن نفسها كمنظّمة غير حكوميّة أو منظّمة غير ربحية. لذا، يبقى هذا المفهوم فضفاضاً، ويحتمل أكثر من تعريف، بسبب كثرة التفاصيل والحيثيّات التي تحيط به، والأبعاد التي تكتنفه. فبحسب تعريف “Howard J Wiarda”، فإنّ مراكز البحث والدراسات هي عبارة عن “مراكز للبحث والتعليم، ولا تُشبه الجامعات أو الكلّيات، كما أنّها لا تُقدِّم مساقات دراسية؛ بل هي مؤسّسات غير ربحية، وإن كانت تملك “مُنتجاً” وهو الأبحاث. هدفها الرئيسي البحث في السياسات العامّة للدولة، ولها تأثير فعّال في مناقشة تلك السياسات. كما أنّها تركّز اهتمامها على التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والسياسة العامّة، والدّفاع والأمن والخارجية. كما لا تحاول تقديم معرفة سطحية لتلك المسائل، بقدر مناقشتها والبحث فيها بشكل عميق، ولفت انتباه الجمهور لها. وينتهي هواردHoward بالقول: “إنّ هذه المراكز، هي مؤسّسات بحثية هدفها الأساسي توفير البحوث والدراسات المتعلّقة بالمجتمع والسياسات العامّة، والتأثير في القضايا الساخنة التي تهمّ الناس”.
تُترجَم عبارة “Think Tanks” إلى اللّغة العربية بصُور مختلفة؛ فثمّة مَن يُترجمها إلى “مراكز التفكير”، ولكن في الغالب يُستخدَم تعبير “مراكز الأبحاث والدراسات” للإشارة إليها. وفي زمن الحرب العالمية الثانية، استُخدِم مصطلح “Brain boxes” باللّغة العامّية الأميركية للإشارة إلى “الغرف التي ناقش فيها الاستراتيجيّون التخطيط الحربي”.
يختلف الباحثون في تحديد التاريخ الذي نشأت فيه مراكز البحوث والدراسات؛ فمنهم مَن يقول إنّ نشأة تلك المراكز في صورتها الأولى، كان في جامعات أوروبا، وتحديداً في القرن الثاني عشر، كتقليدٍ للجامعات الإسلامية، عشية الحروب الأوروبية المقدّسة، ثمّ أصبحت تُعرف باسم “الكراسي العلميّة” في جامعات أوروبا في القرن الثامن عشر، وكان أوّلها نشأة “كراسي الدراسات الشرقية” في بولونيا وفي باريس.
لكنّ المعلومات المتوفّرة في هذا المجال تُفيد بأنّ أوّل مركز أبحاث قد ظهر في بريطانيا في عام 1831؛ وهو المعهد الملكي للدراسات الدفاعية، ثمّ الجمعية الفابيّة في عام 1884، كما أُنشئت أوّل وقفية في بريطانيا، اسمها وقفيّة “ديمورنت” في جامعة أكسفورد، لتشجيع الدراسات الدينية. وعدّ الباحثون هذه الكراسي، الإرهاصات الأولى لإنشاء المراكز البحثية.
في المقابل، ثمّة مَن يرى أنّ مراكز الأبحاث ظاهرة حديثة نسبياً في حقل العلاقات الدولية. وكانت بداية نشأتها في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى. وكانت عبارة عن منابر للنقاش الجماعي أو لدراسة القضايا الساخنة التي تشغل المجتمع وصنّاع القرار. وقد ظَهر أوّل مركز أبحاث، بشكله الحديث، في الولايات المتّحدة، وذلك من خلال تأسيس معهد “كارنيغي” للسلام في عام 1910. وتلا ذلك إنشاء معهد “بروكينغز” في عام 1910، ثمّ معهد “هوفر” في عام 1918، ومؤسّسة “القرن” في عام 1919.
وفي حقبة ما بعد الحرب الباردة، توسّع انتشار مراكز الأبحاث والدراسات، وزاد نشاطها. وأصبح لديها نفوذ في الدّول الديمقراطية، وتأثير في صانعي القرار وفي صياغة السياسات العامّة.
والجدير بالذكر هو أنّ الكثير من مراكز الأبحاث والدراسات قد تشكّلت نتيجةً لأحداثٍ مُهمّة في تاريخ دولة ما، أو لتغييرٍ طرأ مثلاً على النمط السياسي الداخلي والخارجي لنظامٍ ما، أو بسبب قضايا ملحّة قادت إلى البحث عن حلولٍ أفضل، غالباً ما تتكفّل بدراستها مجموعة / أو فرد من ذوي الخبرة والاختصاص ومن المتابعين للقضايا العامّة. واللّافت هو مدى تطوّر هذه المراكز وانتشارها منذ عقد السبعينيّات وحتّى نهاية القرن الحادي والعشرين.
مؤشّر على نضج مؤسّسات الحُكم
يُعَدّ الدَّور الأساس الذي تقوم به مراكز الأبحاث، بشكل عام، مؤشّراً على درجة نضج مؤسّسات الحُكم والإدارة في المجتمع، وعلى تطوّر الجماعة العلمية والبحثية. ومن الأدوار التي تضطلع بها مراكز الأبحاث في الدُّول المتقدّمة، وبخاصّة في الولايات المتحدة، نذكر:
إجراء الأبحاث والدراسات، وتقديم التحليلات المُعمَّقة والمنهجية حول المشكلات والقضايا الساخنة التي تواجه السياسات العامّة.
دعم صنّاع القرار؛ إذ إنّ رجل الدولة وصانع القرار بحاجة إلى مَن يبلور له الخيارات، ويوضِّح له السياسات، ويفصِّل له القضايا بشكل دقيق وعلمي، لذلك فإنّ الكثير من الحكومات والأجهزة التنفيذية في العالم، تعتمد على أبحاث مراكز بحثيّة وعلى دراساتها وخبراتها. وربما عُدّت تلك المراكز هيئة استشارية لتلك الجهة أو لذاك الجهاز الحكومي أو الأهلي (إ. حسن 2012). ولهذا الغرض، تقوم مراكز الأبحاث بـــ:
أ- تحديد الأجندات؛ وذلك من خلال تحديد المركز لجدول أعماله البحثية Agenda Setting؛ ومن شأن ذلك أن يوجّه الاهتمام إلى موضوعات معيّنة في مجال السياسة العامّة كالتعليم، والصحّة وما شابه.
ب- اقتراح البدائل وطَرْح الخيارات، وذلك من خلال طَرْح الحلول والبدائل المتنوّعة، بناءً على تقييم السياسات والبرامج المُطبَّقة.
ت- تحديد التكلفة – العائد لكلّ بديل Cost-benefits، وكذلك طرح المكاسِب المُتوقَّعة من كلّ بديل.
فمراكز الأبحاث الرصينة، تُمثّل مصدراً أساسياً للمعلومات والنّصح بالنسبة إلى صنّاع القرار على مختلف مستوياتهم. إذ تؤدّي مراكز الأبحاث والدراسات في الولايات المتّحدة دَوراً أساسيّاً في مجال اتّخاذ القرار، بل قد يذهب البعض إلى القول إنّ بعض تلك المراكز يشكّل خطوطَ دعمٍ خَلفيّة للبيت الأبيض أو لوزارة الدفاع الأميركيّة.
ث- تقديم الاستشارات والإرشادات لصانع القرار حول الأولويّات والمستجدّات العاجلة أو الفورية؛ وذلك من خلال البحوث العلمية والتطبيقية الميدانية واستطلاعات الرأي.
ج- تقديم التفسيرات والتوجيهات لوسائل الإعلام حول السياسات العامّة، وتقديم توضيحات للجمهور تتعلّق بتلك السياسات حتّى يتسنّى له فهمها.
ح- يُفترض أنّه من الأدوار التي تضطلع بها مراكز الأبحاث: إشاعة روح البحث العلمي، والتعامل مع القضايا بموضوعية، وتعميم ثقافة البحث والتحرّي والاستدلال، ورعاية المُبدعين واكتشافهم، وتوفير الفرصة للراغبين في البحث والكتابة والتأليف، وإقامة جسور التعاون بينهم وبين الجمهور.
خ- تجسير الفجوة ما بين المعرفة والتطبيق والمساعدة في إعداد الأجندات السياسية Policy Agenda، وتطوير الحياة المعرفية في الوسط العامّ.
د- البحث عن أولويّات التنمية في المجتمع، ولَفْت انتباه صانع القرار إليها، وإعطاء تصوّر لسُبل حلّها. وتُسهم في توجيه الأنظار إلى المعضلات المجتمعية، تلك التي تواجهها التنمية المحلّية والدولية.
ذ- تُستخدَم مراكز الأبحاث كأداة / أو كقناة اتّصال بين صانع القرار والشعب.
ر- إقامة جسور من العلاقة والتواصل بين أطراف متعدّدة، تمثِّل في مجملها أقطاب إدارة السياسة العامّة، وتنفيذها والتعامل معها.
ز- متابعة أحدَث الدراسات، وترجمة منشورات ومؤلّفات تصدر عن المؤسّسات والمراكز البحثية في الدّول الأخرى.
وعلى الرّغم من غياب الإجماع على تحديد مفهوم مراكز الأبحاث والدراسات، فإنّ دورها الرئيس هو إنتاج الأبحاث والدراسات في مجالات متعدّدة، بما يخدم السياسات العامّة للدولة، وتقديم رؤى مستقبلية تهمّ الفرد والمجتمع وصانعي القرار.
لم يَعُد دور مراكز الأبحاث في المجتمعات الغربية دَوراً ثانوياً، وإنّما بات دَوراً أساسياً في رَسْم السياسات، وفي ترشيد عملية اتّخاذ القرار. وهذه الخدمات التي ذكرتُها وغيرها تقوم بها مراكز التفكير الخاصّة والمُهتمّة بقضايا السياسة بصورة عامّة. لكنّ هناك مراكز أخرى ذات اختصاصات مختلفة (كالصحّة، والنشاطات الاجتماعية، والتعليم.. إلخ)، وغيرها من المجالات المتنوّعة.
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)