أسعد عرابي مؤرخاً محنتنا العربية
اختار أسعد عرابي (1941) عبارة «إطفاء الجمر في الصقيع» عنواناً لمعرضه الاستعادي الذي تستضيفه «غاليري أيام» في بيروت، مختزلاً تجربته في العقد الأخير (2007 – 2017) بكل تحوّلاتها البصرية: الغوص في طبقات اللون لإشعال النار في صقيع جغرافيا تحتضر، وتاريخ يتقهقر تحت ضربات لحظة متوحشة.
تجربة تنطوي على حساسية مشرقية تؤرخ لمحنة المدن العربية على خلفية إيقاعية متوترة، تزاوج الحلم بالأسطورة، ثنائية التدمير والتعمير، الحدس والهذيان، ونسف المسافة بين التجريد والتعبيرية التشخيصية.
في مقاربته لشخصية أم كلثوم، استعاد زمناً مضيئاً، ممجداً رموز عصر النهضة العربية، ليس من باب الحنين وحده، إنما بقصد ترميم عطب أيديولوجي من نظرة استشراقية تسللت إلى المحترف العربي على وقع فوضى مطرقة العولمة.
ههنا احتفاء نغمي بالتخت الشرقي الأصيل، وتناوب مدروس بمهارة بين إيقاع اللون وحركة الآلات الموسيقية، بإيقاظ حاستي السمع والنظر عبر وحدات سردية متجاورة تجمعها سينوغرافيا بصرية مشبعة، في نقلات لافتة ما بين منديل أم كلثوم وشجن محمد القصبجي، إلى الكرسي المقلوب لصاحب «رق الحبيب» إيذاناً بأفول ذلك العصر الذهبي من جهة، واستنفار لوني يؤطر قوسي التطريب والتأبين، من جهة ثانية. يوضح: «لا شك أن إحياء ذكرى أم كلثوم كرمز لعصر النهضة المتسم بالتسامح الديني والقومي، لا يخلو من إدانة مضمرة للانحسار الثقافي العام مقابل صعود الأصولية العمياء»
فيما يرصد في «تحية إلى موريس بيجار» التحولات الموسيقية للجسد العاري، والاشتباك المرن بين الإيروتيكية والصوفية، وصولاً إلى التجريد الغنائي في أعمالٍ لاحقة، من دون التخلي عن طوبوغرافية التكوين الحضري. هناك أيضاً، اشتغاله على الطبيعة الميتة، لكنه، في حفرياته، يسلك دروباً أخرى، مانحاً إياها تضاريس مختلفة، بانتشالها من سكونيتها. سنلحظ إيقاعاً حركياً للموجودات، ونبضاً موسيقياً يشي بحياةٍ سريّة، تستدعيها ذاكرة متأججة يغذيها الحدس والحواس بدفقة إيروتيكية تكاد تعلن عن نفسها في مقاصد الخطوط والأشكال والشهوات المضمرة.
منطقة مغايرة، تعيد الألق إلى هذا الموضوع المألوف، وتنسف مرجعياته التقليدية المستقرة، لتضعه في مقام لوني آخر، في «حوار بصري» مضبوط وملغّز.. الطبيعة الصامتة هنا، ما هي إلا استكمال لعناصر معماريّة من الحارة الشامية التي أعاد صوغها ككتلة متجانسة. هذه المرة، ينشغل بموجودات الداخل، ويمزجها بإشارات روحانية تلغي بعدها السكوني والواقعي.
إذ تتجاور دائرية الثمرة مع انسيابية المئذنة، في حوار شجي، ووجد صوفي، بين الخارج والداخل. وقد يتمازجان على سطح نغمي واحد. في محطة أخرى، ستباغته المحنة السورية بحممها وغربانها وجحيميتها، لتضيف لحناً جنائزياً أكثر عنفاً في تهجير «الساكن من المسكون» إلى حدود فقدانه صكوك الملكية، في إشارات تعبيرية إلى الدمار الذي تعيشه المدينة منذ سنوات، مستبدلاً حميمية تلك العمائر المتشابكة بقيامة وحرائق وانتهاكات.
كأننا إزاء طقس أضاحٍ، من دون توقّف، أو كما يحدث لحلزون بلا صدفة تحميه. عراء روحي ومسلخ جماعي وبرابرة لتدمير التاريخ وتفتيت خرائط الفردوس الشامي بنعيق غربان طويل. وإذا بأزقة الحواري القديمة المسكونة بالسحر والتعاويذ والأساطير، تفقد روحانيتها تحت وطأة النزوح، بدلالته المكانية والتاريخية، عن طريق منهج خاص في معالجة طوبوغرافية هذه الحواري، على نحوٍ آخر، وكحصيلة لاحتدامات داخلية تستدعي طبقات لونية متنافرة، بنبرة مأتمية. هكذا تتأرجح هذه الأعمال بين مفهومي الوجودية والوجد، بوجدان يقظ، على خلفية نغميّة تهندس تكويناته الحدسية، مستنفراً الذاكرة في المقام الأول، فهي، وفقاً لما يقوله «أول مصفاة تأويلية للواقع المحسوس».
في بيانه المرافق للمعرض، يكشف أسعد عرابي عن تطوّر مقاماته اللونية ومرجعياته التشكيلية ورفضه الحياد في مواجهة الكارثة الراهنة. ذلك أن اللوحة التي تمثل ضمير المصوّر «لا تحتمل شهادة الزور، والتزام الصمت». ويضيف: «لست التشكيلي الوحيد بالنتيجة الذي تحدوه صبوة المقاربة بين التشخيص والتجريد، بين الموسيقى والتصوير. فأنا أتعقّب (منذ الاستهلالات الأولى) المسعى التوليفي التصوفي لدى المصور – الموسيقي القطب بول كلي. كذلك شأن الوجودي نيكولا دو ستاييل، انتهاءً بوليام دي كوونينغ وكييفر، عبوراً من بيكاسو وكوبكا وبرانكوزي. أذعنت لوحتي لتأثير بعضهم بدرجات متفاوتة».
هذه المراجعة تتيح لنا مراقبة متدرجة لتطورات محترف هذا التشكيلي المجدد، وانخراطه في حداثة محليّة محمولة على ذاكرة متشظية بين أمس حميمي، وراهن يحتشد بحطام وأسى وتمزقات حضرية/ قبليّة، يشبهها بتواتر دورات الفصول، ضمن «تطوّر عضوي متدرج»، بعيداً عن الأسلبة والمارتينغ والحداثة المسطّحة. ذلك أن التطريب اللوني لديه، في معظم مراحله، يتكئ على مفاهيم أصيلة في معنى الحداثة، تلك التي تستمد قيمتها – بسلكٍ خفي – من «المميزات الروحية للموروث التشكيلي للأسلاف، سواء كان رسوم المخطوطات أو الأيقونات أو الأرابسك والحلي وخيال الظل والمقرنصات وأنواع الرقش».
ما بين برزخي الذاكرة والنسيان إذاً، يصوغ أسعد عرابي خطوطه وحدوسه اللونية، طامساً المسافة بين التجريد والتشخيص كاستجابة مدروسة لأسئلة ما بعد الحداثة. ثم إنه بنظرة أخرى، يعيدنا إلى وصية هنري ماتيس «دعوا التصوير يفصح عن ذاته».