الإيمان بالبلد !
” مصر يمّه يا بهية ، يمُّ طرحه وجلابيه
الزمن شاب وأنت شابه . هو رايح وأنت جايه ”
…………………………………………………………………
الإيمان بالبلد
أظنها تسمية مناسبة ، تلك التي أطلقها الكاتب صلاح عيسى ، على الشاعر أحمد فؤاد نجم: “شاعر تكدير الأمن العام” ، وإن كانت التسمية تخص في حقل التكدير، أكثر ما تخص، السلطات والقيادات، والحكومة المصرية.
لقد بدأ الارتياب، عند نجم، بوطنية كل شيء، مبكراً… عندما رأى الانهيار على جبهة القناة، وهزيمة من كانوا إلى ساعات سابقة، يدقون، بالراديو، أبواب فلسطين.
في تلك المرحلة كانت هناك ضرورة لإشعال الأمل، ليس بتحرير فلسطين، وإنما بالجزء اليسير من الكرامة الوطنية… ” إزالة آثار العدوان”. وما أدراك ما لإزالة آثار العدوان؟… كل شيء للمعركة (سماها نجم معلكة).
تسليح الجيش المصري. وتدريبه.
الإعداد للمعركة…
التنمية وشدّ الأحزمة…
التضييق على الناس. لأن كل شيء للمعركة…
وبعدها موت عبد الناصر، وصراع الوراثة بين رفاق الأمس. وبعدها الحرب والصلح وكل مآسي ما بعد انقسامات مجتمع أراد أن يتحرر… فتدمّر !
أحمد فؤاد نجم نصب مدفعية الأغنية على أسوار مصر. وصوّبها في كل الاتجاهات. لكنه ، أيضاً، ركّزها في الإتجاه الرئيسي: السلطات مصدر الشرور والناس منبع المسرّه .
مما يلفت النظر في تجربة نجم ، أن الجوهر العميق لإيمانه كان غير قابل للاختراق: إيمانه بمصر، دون هوادة، دون نقاش، دون تلكؤ ، أو فلسفه وتثاقف، أو تعثر في أية لحظة من لحظات المحنة الوطنية أو الانسانية أو الحياتية التي مرت بها مصر!
” مصر أم وأب الدنيا ” بالنسبة لنجم. مصر ولاّدة. مصر مصنوعة من الحلوى. ” اللي خلق مصر كان بالأصل حلواني” مصر البهية. المشرقة الآملة الآمنة المحبة الحنونة…
ومنذ أول قصيدة لحنها الشيخ إمام، وأصبحت أيقونة حب ليس لمصر فقط، وإنما لكل من يدخل الحب قلبه. الحب الذي لا يريد مكافأة ولا يساوي بين اثنين في صفقة، وإنما الذي يتدفق كينبوع يروي شاة وذئباً. وهي أغنية : ” أنا توب عن حبك أنا ؟ ” …. منذئذٍ اتجهت أغنيته إلى روح شعرية جديدة .
كثيرون عرّضتهم بلادهم لمحنة، أو منفى، أو اضطهاد وسجن .
وكل ذلك كان من حصة نجم (9 مرات سجن. سنوات طويلة بدايتها أيام عبد الناصر 3 سنوات)… وكثيرون من الشعراء عتبوا أو عاتبوا أو هجوا بلادهم لقسوتها. إلا أن نجم لم يكف لحظة واحدة عن تفهّم هذه البلاد والإمعان في محبتها. والإيمان بأنها ستكون ذات يوم محررة من جلاديها ومصاصي دمائها .
وهنا تاتي الثمار…
تأتي من شجرة الإيمان :
حين جاءت الثورة. كان نجم في ميدان التحرير، وابنته ” نواره”… تقود كتيبة جيلها. والتي قال عنها وهو مليء بفخر الأب:
“هذه مكافأة نهاية الخدمة”.
أظن … رحل نجم وهو غير آسف على أية لحظة من حياته. راضياً كمبشّر، هانئاً كحر، سعيداً كشاعر جوال، ودائخاً في نشوة الصناعة التي أتقنها:
أغنية لفكرة الحب والإصرار عليه…حتى الخلاص (النصر… إن شئتم).
…………………
يوم رحيله تذكرت أن جيلنا كان أفضل لأنه غنّى للشيخ إمام ونجم. وثم حاولت أن أنسى، أن جيلاً آخر سيأتي، وربما كان بيننا الآن، وهو لم يسمع بهذا الاسم. ولا أدري إن كان أفضل أم لا….
لكني أعلم علم اليقين أنه لا يعيش في بلاد ….أفضل ؟!
سنونو واحد ..تائه ووحيد ، ليس دائماً يدل على قدوم الربيع !
08.12.2013