الضجر الابتدائي
الضجر الابتدائي
“ما أرجوه من اللواتي يحببنني أن يحببن… عزلتي ”
ريلكه
هناك أنواع من الضجر لا يفكر بها الناس عادة لكي يفهموها. فليس للضجر، في واقع الأمر، فلسفة بل ربما لا يستحق التفكير فيه.
” إنسان ضجران يعني … موجود ” .
لكن أنا، أحياناً، عندي نوع من ” الضجر الخبيث” ، قد يشبهه هذا الاسم، لمماثلته مع المرض الخبيث، أي الذي لا حلّ ولا دواء له. وهنا تتعرض الشخصية، ذات الضجر الخبيث أو المرض الخبيث (إن شئتم) إلى امتحان قبول ابتدائي في الحياة.
تبدأ الشخصية، أول شيء، بتصنيف الوقت ووضع رزنامته المسعورة.
فليس محاولة توظيف الزمن المتبقي هو ما يشغل من بقيت له أيام، أو أشهر، أو سنوات… بل محاولة التغلب على الزمن الماضي . فالماضي، وهو السجل الذهبي أو الفضي أو البرونزي أو القصديري، هو الذي بعث برائحة النهايات وليس الاقتراب من صلصال القبر.
فيما أفكر بضجري الخبيث، وأحاول التفاهم معه، بإرسال بعض الأفكار إليه: “ضفتا النهر غريبتان عن بعضهما بسبب السرير الذهبي لأقدار النهرـ ولكن المشهد جميل هكذا” … وفيما يردّ على بلاءات عناد الراسخ في تجربة الأذى ـ رنّ هاتفي الجوال معلناً وصول رسالة.
فتحت الرسالة بلهفة من يتوقع هدية، من ينتظر غيمة عليها إمرأة جميلة ترشّ حليب اللطف الإنساني (كما يقول شكسبير) على الكون، فأصاب أنا برذاذ رائحتها العظمى…
وكانت الرسالة هذه الأبيات الثلاثة:
غَسَل اليدين من الدنيا وبهجتها قام وصلّى صلاة الخالد الفاني
حطّ العيون على الأشجار وانسربت من صدره روحه واحمرّ خدان
يا وقت.. يا وقت لا تعصف بأغنيتي ياوقت..لاوقت كي أصطادألحاني
لم يكن رقم المرسل معروفاً لدي، ولا مسجلاً في أي من دفاتر أرقامي.
وقد تلهيت عن محاولة معرفة المرسل/ أو المرسلة، بتلذذي الاحتفالي تحت الغيمة التي أمطرت. حفظت الأبيات فوراً. وقلت لضجري الخبيث شامتاً: ” تفضل اصمد أمام هذه اللغة” .
خرجت من المقهى، وبدأت أتخيل الشخص أو (الشخصة)، ثم أردت ألا أعرف. يكفي هذه الروح التي أرسلتها. يكفي الروح التي انتعشت بتلقيها.
ولكن…
بعد يومين بدأ الضجر الخبيث يطالب بمعرفة المرسل. ففتحت الرقم، ولكن أحداً لم يرد. كررت دون فائدة. فأرسلت رسالة قصيرة: شكراً على الهدية. سأكون سعيداً لو أعرف من أرسلها”.
ولا جواب.
بعد أسبوع ردّ رجل على الهاتف، وقال: أنا “فلان”. فتذكرته، من بين جميع الناس، لأنه الوحيد الذي يغيب سنوات ثم يتلفن أو يرسل شيئاً خاصاً به. وغالباً ما يتفقدني، وهو مسافر وبعيد.
وكل معرفتي به ،إنه يقرأ كثيراً ويتاجر كثيراً ويربح أموالاً ويشرب دائماً.
سألته عن أخباره، فقال: “منذ أسبوع… ماتت حبيبتي”. قالها بهدوء، فلم أعرف ماذا أقول له رداً على الموت. ولم تلهمني معرفتي بالفقدان أي كلام رداً على الحب .
فقلت له: ” سأرسل لك كلمات من صنع من سبقوك على هذا الصنف العجيب من عذاب البشر”.
كتبت على الموبايل، وأرسلت مقطوعة شعرية كتبها توفيق صايغ ـ الشاعر العراقي الراحل ـ رثاءً لحبيبته التي ماتت أمام ذروة حب وعافية .
“اليوم “جمعة” الأموات.
سوف يخرج الناس إلى القبور
قومي معي…
نبكي على قبرك حبيبتي. وحين يتعبنا البكاء.
نترك عند القبر، إكليلاً من الزهور”.
لم انتظر رداً، بطبيعة الحال، ولم أعرف إن كنت قد رششت ماءً قراحاً على قبر حبيبته أم ماء نار في روحه؟ لكنني متاكد، الآن، أن ضجري الخبيث مقتنع، لبعض الوقت، بضرورة الرحيل إلى مدن أخرى، وأشخاص آخرين. ذلك لأنني لست الشخص المناسب لهذا النوع من الفتك الشرير، لمجرد أن حياتنا، ونحن نتأملها على الخريطة أو في شارعها الذي تسكن فيه، أو وطنها الافتراضي… تصبح يوماً وراء يوم أكثر مدعاة للضجر!
20.10,2013
بوابة الشرق الاوسط الجديدة