ذكريات عن حرب ليست كذلك !
ذكريات عن حرب ليست كذلك !
“للنصر ألف أب، أما الهزيمة…فيتيمة.”
يوم 6 تشرين الأول\ اكتوبر عام 1973.
استيقظت متأخراً، فارتديت بسرعة بذلتي العسكرية، وللسرعة لبست بوطاً رياضياً بدلاً من العسكري. وذهبت إلى الإدارة السياسية\ حيث أمضي خدمتي العسكرية الإلزامية كضابط مجند ـ اختصاص حرب نفسية. (الاختصاص الذي لم أعمل فيه، بل أصبحت فجأة وفي ذلك اليوم بالذات مراسلاً حربياً).
وصلت إلى أقرب موقع عسكري في جبهة الجولان الشمالية قبل ساعة الصفر بدقائق. وعندما بدأت الحرب … رأيت، للمرة الأولى، كيف هو العجز عن وصف شيء تشاهده. وتسمعه وتحسّ به. (ونظرت إلى حذائي الذي لم يكن حربياً أبداً)
لم يعد هناك زمن، ولا أداة قياس، ولا شيء في الكون سوى هدير الطائرات، وأصوات المدافع، وأزيز الصواريخ، ولم يكن هناك طوال ساعات ما يمكن فعله ، كصحافي سوى تصوير قطعة من الجحيم… ونحن منبطحون وراء ستار من صخور الجولان السوداء.
وفجأة… جاء سرب من الطائرات الإسرائيلية، وانتظم في تشكيلات الانقضاض على المدافع السورية، والمواقع، وراجمات الصواريخ، وعلينا، فطلبت من المصور التلفزيوني (خليل) أن ينهض ويصور. وكانت الصور الأولى لا تسر: فقد صورنا المدافع وهي تتناثر في الجو وأجساد الجنود أيضاً. وكان هذا إنجاز الطائرة الأولى التي مضت باتجاه العودة. أما الثانية فقد كان انجازها الوحيد أنها اشتعلت فيها النيران، وهبط منها طياران. (خليل) المصور بدأت يده يخفّ ارتجافها طرباً، وهو يصور إصابة الطائرة وسقوطها وهبوط الطيارين منها.
جاءنا ضابط من الموقع المجاور وطلب أن يستخدم سيارتنا للقبض على الطيارين. فانطلقنا إلى موقع سقوطهما. وبعد دقائق كنت أجري مع أحدهما مقابلة تلفزيونية ( بثها التلفزيون السوري مساء ذلك اليوم).
أول مرة أرى فيها إسرائيلي، وضابط ، وطيار. وقد فوجيء عندما رأى الكاميرا، وبدأت المقابلة باللغة الانكليزية (طبعاً). كان شاباً في العشرينات برتبة نقيب. وكان خائفاً وشجاعاً في آن واحد. أجاب عن الأسئلة السريعة التي تشبه التحقيق. وأردت أن أعرف توقعاته لمصيره، فقال: أرجو أن لا أعامل كعدو بل كأسير حرب. وأتوقع معاملة حسنة من السوريين.
وضعوه في سيارة وذهبوا به إلى دمشق. وما زال لدي من ذكرى ذلك اليوم القداحة الخاصة بالطيارين، وعلبة ضماد طبي، وصورة تذكارية معه.
لم تهدأ الحرب ولا ثانية. ولم نكن نعرف أين سنقضي الليل أنا والمصور التلفزيوني. والمصور الفوتوغرافي والسائق. ولم يكن الليل ليلاً. فهو كالنهار من تلك المظلات المضيئة التي يطلقها الإسرائيليون فوق مواقعنا. لكنني من فرط التعب اخترعت نظرية: الخوف لا يبعد القنابل عنك وأنت صاحٍ، فكيف لا يبعدها عنك وأنت نائم؟…
وضعت حذائي تحت رأسي ونمت !
ذكريات عن حرب ليست كذلك !
في اليوم التالي…
بقينا في الجبهة، وكانت معركة عبور (خط آلون) وتحصيناته قد تمت، فتقدمنا وصورنا، وكانت المعركة متعثرة ، واضطررنا للعمل كسيارة إسعاف بين المواقع والمستوصفات الميدانية.
المصور خليل كان يقول: “ياملازم”…” نحن فريق صحفي، ولسنا مقاتلين، وأنت تزجنا في مواقع مقاتلين، ومسعفين، وضباط ارتباط… بهذه الطريقة سنموت قبل نهاية هذه الحرب”.
وفي الحقيقة، وربما أحياناً، لجهلنا بخريطة مسرح العمليات، كنا نتورط في الذهاب إلى مواقع قريبة من تمركز الإسرائيليين واختراقاتهم. وكنا نقع أحياناً في مناطق الهجوم الجوي. قلت لخليل (وهو مدني) : لا تخف…صوّر أنت كل شيء: للتلفزيون إذا بقينا، وللذكرى إذا متنا…
………………
دامت الحرب حتى 22 تشرين، ونحن ننتقل من مكان إلى آخر، نصور، ونكتب يوميات الحرب لجريدة المعركة، وللتلفزيون، ونوزع الصور على الصحافة.
كان الأسبوع الأخير صعباً وخطراً ومؤلماً…لأن الإسرائيليين اخترقوا بعض خطوط الجبهة التي نحن فيها( جبهة القطاع الشمالي). ولم نعد نعرف الجيوب غير الآمنة، والمواقع تغيرت. فازداد قلق خليل وهو يردد كل منتصف ليل، ونحن عائدون من الجبهة: “اليوم نفدنا” ، وفي الصباح، ونحن نغادر دمشق إلى الجبهة يقول لزوجته: “وداعاً… فلن ننفد اليوم”.
وفي اليوم الأخير… بعد وقف إطلاق النار رسمياً، عدنا مساءً مبكراً إلى دمشق… وخليل يردد، هذه المرة، بنوع من الشماتة بالموت، “والآن، يا ملازم “…” لسّا فيك تستدعي عزرائيل مندوب إسرائيل ؟”
ولم يكمل الجملة حتى سمعنا صوت ارتطام مدوّ كقنبلة، وانقلبت سيارة الجيب مرتين واستقرت على الجانب الأيمن ، حيث أجلس، وانهالت علي البنادق التي نزعناها عن أكتافنا، كعلامة على نهاية الحرب ، وأغراضنا الأخرى والكاميرات والصناديق الأفلام والذخيرة… والخوذ. والصراخ المستغيث أيضاً.
وفي الظلام الشديد انجلى غبار المعركة عن تصادم سيارتنا بدراجة عسكرية مزدوجة تشبه دراجة ألمانية من الحرب العالمية .
بعد الخروج من الشبابيك ، وبعد أن تفقدت أعضائي، ووجدت أنني سليم، وصوتي سليم صرخت: “خليل وينك؟” كان خليل مرمياً على الإسفلت يئن. فقد كسر فخذه. ولم يصب أي عنصر من فريقنا نحن سوى خليل!!
في المشفى، وبعد الإسعاف، وانضمامه إلى فريق الأسرة البيضاء، رمقني في أسى وابتسامة ساخرة على وجهه ، قال : “ما نفدنا يا ملازم…”
وتذكّرت :
“مرة كنت أقول لخليل: “هل تعلم من هو صاحب أسوا حظ في العالم؟ هو آخر جندي يقتل بآخر طلقة ، ولحظة وقف إطلاق النار في الحروب الحديثة”. وكان بقول: أنا هو ذلك الجندي التعيس !
……………
ذكريات عن حرب ليست كذلك !
لا أعرف أين هو خليل الآن. وها قد مرت على تلك الحرب أربعون سنة. كنت خلالها كل عام أتذكر تلك الأيام الوطنية الكبرى. وتمر صور الأشخاص الذين تعرفت إليهم في الميدان الحربي، وكانوا ضباطاً صغاراً، ثم قابلت بعضهم وهو متقاعدون برتب عليا وفيلات عليا. وآخرون ظلوا شباباً في أرشيفي المصور لأنهم ماتوا.
تمر صور الجبهة، ومواقع الإسرائيليين التي صورناها بعد تدميرها، ولدي كتب تسلية باللغة العبرية من تلك المواقع. لدي صور لجنود عراقيين شهداء متناثرين حول دباباتهم المعطوبة. لدي صور لمدافن مرتجلة في الجبهة عليها شواهد لا تحمل سوى الرقم العسكري للمدفونين.
لدي مسودة للنص الأول الذي كتبته في الذكرى الأولى لهذه الحرب… ما تزال آثار بضع قطرات من الدمع على الورق الهش. فقد كتبت فيه حزني على أخي الأكبر الذي لم يعد من تلك الحرب، ولم نعرف مصير جسده.
لدي الآن ، أيضاً ، وبعد هذه السنين تلك الحسرة المؤلمة على انهيار فكرة واقعية عشتها ومؤكدة هي: كانت حرب تشرين فرصة حقيقية لإنزال أكبر هزيمة بإسرائيل. وقد أصبحت تلك الفرصة هي الأخيرة في المدى المجدي للتوقعات !
ثمة أيضاً… الحسرة على: المشهد العظيم للوطنية السورية، التي تجلّت بشعب يقبّل خوذة الجندي. وجندي يقبّل ضفة بحيرة طبريا وهو يشرب من مائها، في أولى النجاحات العسكرية التي وصلت إلى طبريا.
والآن؟
هذه ذكريات عن حرب ! …. أين نحن الآن… من كل تلك النبالة لتضحيات ذهبت أدراج الرياح؟!
06.10.2013
بوابة الشرق الاوسط الجديدة