يحدث أحياناً … هكذا !
يحدث أحياناً … هكذا !
القسم الثاني
لا أدري بالطبع، ما الذي جعلني أعرف كل شيء من لا شيء ومن الذي،, كأنما وضع في أذني تفاصيل ما جرى لها …. دلَّني على ذهابها في أفق آخر، ومدار آخر، ومشروع آخر .
حاولت، في قلب همّي الثقيل، أن أتذكر نقاط ضعفها. شَغَفها، وترددها .
مدى شروخ روحها. حاولت أن أبتذل تفكيري بها. وكنت في ذلكم الوقت، وأثناء كل ذلك، أرمّم نزاهتي الضرورية في مأزق الشك بالآخرين، ولدى امتحانات سوء التفاهم مع البشر الأعزاء.
لقد هداني هذا الذي لا أعرف من وما هو، إلى سيناريو علاقتها بمدير الجريدة، وهما يتواعدان على الشراكة والزواج والعمل. وفي التفاصيل المنتمية، رغماً عن كل شيء إلى روح البازار … اكتمل شكل الصفقة !! لقد بيعَ شيءٌ غالٍ في الإنسان مذ قال لنفسه:
” عصفور في اليد ولا كركيٌّ في السماء”.
5
يحدث أحياناً … هكذا !
لقد جاءت، لا لتبلغني خبراً. بل لتورثني وداعاً بعد اختراع السبب. ولأنها تعرف كم أحببتها كصائم محترف، قرَّرت ألا تقول شيئاً. فقال وجهها وعيناها ورائحتها … كلَّ شيء هذا الخذلان المعنوي الكبير ..
هذا الألم المصاحب للخيانة في لحظة شروعها، أو اكتمالها، جعلني حزيناً كما لم أجد نفسي من قبل، أبداً. مضت ثلاث ليالٍ لم أنم خلالها، وتعرضت لأحلام مؤذية وحين باشرت الوقوف على قدمي، بجرعات ثقيلة من الويسكي، انتبهت فجأة إلى إمكانية التخلص مما أنا فيه ” مرض الخذلان الشوكي ” فقررت طرد الهم عن طريق النبذ الحاصل من سرعة الحركة. فتحركت.
مشيت عشرين كيلومتراً في أرض جرداء. مشيت في نهر جبلي عكس الماء خمس ساعات جلست على ترعة ماء في بستان. تنزهت على شاطئ البحر قائساً الأعماق بالنظر، منبهاً إلى الحطام الذي يلفظه البحر …. عادّاً خلجان الصخور، جامعاً قواقع من كل الألوان. أنهيت حذائين رياضيين. وتعرَّق قلبي !!
في اليوم الرابع … وصلتني رسالة تؤكد فيها أنها تحبني وإنني من لا يمكن نسيانه.
ولكن …..
في اليوم الخامس …. جلست إلى طاولة الكتابة، أكمل مشروع طرد السموم. فكتبت لها رسالة قد لا يكون فيها، أو لها المعنى الذي أردته … القول الأخير الذي أود إيصاله .. لأنني كنت كصوت تعرض للتشتت والتلاشي واختلاط الأًصداء. غير أن الكلام يغسل العذاب ولم أرسل الرسالة.
في اليوم السادس لففت الأوراق المكتوبة، وأدخلتها بصعوبة في زجاجة. أغلقتها وذهبت إلى الشاطئ.
وهناك …
كما فعل آلاف غيري، عبر العصور، من على سفن على وشك الغرق
هناك ….
كما فعلت الشواطئ، وهي تأخذ بشراً ولا تعيدهم.
هناك …
بأيدي أناس تعبوا من الأمل بلقاء من فقدوا، وضاعت حياتهم في تيه بلاد بعيدة وراء المحيطات.
هناك … رميت الزجاجة، فأخذها البحر.
ونصف عائمة …
نصف غريقة …
راحت تبتعد !!
6
يحدث أحياناً … هكذا !
الرسالة:
… لا أستطيع، مدى الحياة، نسيان تلك النظرة الأخيرة. عندما كان الوداع الأخير كأنه الوداع الأخير. في لحظة الخروج إلى الشارع أحسست بغيبوبة الشخص الذي تغادره روحه لثوانٍ، ثمّ لأستفيق بعدها على الضجة الصادرة عن الحياة ( كأنما الحياة اكتشاف) ولأمضي بعدها إلى فضاء فارغ، إلى حزن عظيم موازٍ لاكتشاف الحزن، ومقابلة وجهه الصغير _ ( إنه يشبه وجه فتاة باكية، خلف زجاج في يوم عاصف، في مدينة نائية) _ تلك الرسالة الأخيرة، يمامة الألم الأخير، التي تركتِها لي. كانت تقول حكمة الذبول، ووصفاً خفياً بين السطور لدورة الفراشات. كأنها تقول هذه هي مشتقات الحب … الحب بعد زواله: العطف، التردد. الخذلان، والتعزية. رسالة كأنها أيقونة مسيح مغادر أودع في معذِّبيه إلهامَ صبرهم .
كان ضرورياً وصف ذلك المساء الحزين. المساء المنزوي في مقهى مخصَّص لتعاطي الابتسامات البريئة في أول الأعمار. وليس مساءً لتدلي عنقين في مشنقة. كانت ظلالنا على الجدار إلى جوارنا، لطخاً خفيفة من العزلة والشغف. وأمامنا كانت القهوة سماً لتهدئة الموت.
وكان ضرورياً أن يصرخ أحدنا صرخة عدل. صرخة عدل هادئة عالية عميقة وواضحة، ليقول للحياة :
كفي عن تداول المألوف !!
كالشاعر مايا كوفسكي وهو ينادي في قصيدته العظيمة ” غيمة في بنطلون ”
” أماه أسرعي. إن حريقاً يشب في قلب ابنك “. وأتذكر “بطل من هذا الزمان” لليرمنتوف الروسي أيضاً، وهو يسافر مغادراً القبح . فيموت وحيداً في عزلته التي اختار. وأتأمل ” اليتم ” في الوجوه التي عرَّضها الموت لامتحان القوة بلا قوى. (اليتم ) وهو لا يطلب النجدة، ولا يتوقع العون. ويظل صامتاً في بيت اللغة .
ما حدث كان لا بد أن يحدث. ربَّما لأن الحياة مُغويه. لقد تمنَّى المسيح نفسه في لحظة أن يكون رجلاً عادياً من ذكور تلك الأيام، حول أورشليم وفي ينابيع أريحا، وفي أزقة بيت لحم … يركض خلفه ظله، عابثاً بالتين في صدور الفتيات !!