’’أطلس لبنان: تحدّيات جديدة‘‘
تلعب مراكز الأبحاث الأجنبيّة العامِلة في العالَم العربي دَوراً محوريّاً في تسهيل التواصل العِلمي بين الباحثين في الجامعات العربيّة والجامعات الأجنبيّة على المستويات كافّة، وبما يُسهم في تقديم مادّة بحثيّة من الطراز الأوّل، تسمح للباحثين – الشباب والمُخضرمين – بالبناء عليها من أجل استكمال تحاليلهم. ومن هذا المنطلق بإمكاننا أن نعتبر أنّ كِتاب “أطلس لبنان: تحدّيات جديدة” Atlas Du Liban، الصادر حديثاً في بيروت عن المعهد الفرنسي للشرق الأدنى والمجلس الوطني للبحوث العلميّة ومن إعداد الأمين العامّ للمجلس الدكتور معين حمزة، ومدير “المركز الوطني للاستشعار عن بعد” التّابِع للمجلس الدكتور غالب فاعور، والأستاذ في “معهد العلوم السياسيّة” في باريس الدكتور إريك فرداي، يشكِّل إسهاماً علميّاً جادّاً وموثَّقاً لما ينبغي أن يشكِّل الأرضيّة الأوّليّة لتناول أيّ موضوع من الموضوعات العمرانيّة بالمعنى الخلدوني للكلمة، المتعلّقة بحياة اللبنانيّين الراهنة في الحقل الجغرافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والسكّاني على حدّ سواء.
هذا الكتاب، المتوفّر باللّغتَيْن الفرنسية والعربية، ينقل لك بلغة الخرائط أبرز ما توصّلت إليه حياة اللبنانيّين في مجالات العمران كافّة، فيسمح بتكوين صورة بانوراميّة للمشهد الاجتماعي العامّ. ثمّ إنّ ميزة هذا الكِتاب أنّه جاء كثمرة تعاون بين المعهد الفرنسي للشرق الأدنى (Ifpo) والمجلس الوطني للبحوث العلميّة (CNRS- Liban)، الأمر الذي يشير إلى أنّ هذا العمل، المَبني على مُبادرة من المجلس الوطني للبحوث العلميّة وبتمويل من اللّجنة الوطنيّة اللّبنانية لليونسكو وبرنامج التعاون اللّبناني الفرنسي CEDRE،
قد شهد تآزراً علميّاً ناجحاً بين باحثين فرنسيّين ولبنانيّين (عشرون باحثاً وباحثة) ينتمون إلى مؤسّستَيْن مختلفتَيْن عرف باحثوها كيف يشبكون جهودهم العلميّة في سبيل إنتاج مادّة مُتكاملة وموحَّدة. وذلك إن دلّ على شيء، فعلى أنّ البحث العلمي يصلح لأن يكون قاسماً مُشترَكاً لجميع أهل العِلم، أيّاً كانت جنسيّتهم. وقد اعتمد “الأطلس” بشكلٍ أساسيّ على الخرائط والمعطيات التي ينتجها المجلس الوطني للبحوث العلميّة من خلال مراكزه البحثيّة الأربعة.
في القسم الأوّل، الذي يحمل عنوان: ” لبنان، البلد المهتزّ جيو- سياسياً”، يتوقّف فابريس بالانش عند تداعيات النزوح السوري إلى لبنان، في أعقاب الحرب الأهلية المندلعة في سوريا منذ 2011. يشرح الكاتِب طبيعة آثار هذا النزوح الكثيف، داعِماً تحليله بخرائط تُظهِر الانتشار البشري للنازحين عند تخوم لبنان الشمالية والشرقية، فضلاً عن جنوب العاصمة بيروت وصولاً إلى مدينة صور.
يشير من ناحيته إريك فرداي، في هذا القسم أيضاً، إلى تصدّع قطاع المؤسّسات الرسمية اللبنانية المُزمن الذي عجز عن مواكبة تطلّعات اللبنانيّين قبل أن يعجز عن التعامل الجادّ مع توقّعات النازحين السوريّين. وفي هذا السياق يشير الباحث الفرنسي إلى أنّ 31 من أصل 128 نائباً في البرلمان اللّبناني الحالي، أي ما نسبته 24%، يرتبط بعائلة سبق لها أن كان لها كرسيّ في المجلس النيابي سابقاً، للدلالة على الطابع الوراثي لجزءٍ وافر من الطبقة السياسية اللبنانية. كما يشير الباحث الفرنسي نفسه إلى أنّ أحد عشر مصرفاً لبنانياً كبيراً لها شخصية إدارية أساسية تحتلّ مقعداً نيابياً في البرلمان اللبناني اليوم. ثمّ يشير إلى تواطؤ هذه الفئة مع تلك في إدارة البلاد السياسية بذهنية رجال المال والأعمال.
اقتصاد غير متوازِن
في القسم الثاني من “الأطلس” يعرّفنا برونو دوايي على الاقتصاد اللبناني الذي يصفه بغير المتوازن، حيث يشير إلى تفاوتات متزايدة على مستوى تنمية البلاد. فالاقتصاد الوطني، الذي هو من طبيعة ريعيّة، لا يؤدّي إلى توزيع الثروة العامّة على قاعدة متساوية نسبيّاً. بل إنّ حصر الاقتصاد في القطاعَين المصرفي والتجاري بشكل أساسي، بنسبة سبعين في المئة من الإنتاج، يخفي الشرخ المتزايد الحاصل بين شريحتَي الأغنياء والفقراء. الأمر الذي قد لا يستمرّ طويلاً من دون مشكلات.
أمّا في ما يتعلّق بالواردات الخارجية، فيشير الباحث إلى أنّ العمالة اللّبنانية المُهاجرة (المتخصّصة عموماً) أمّنت تحويلات بلغت بين العامَيْن 2009 و2013 ستة بلايين دولار أميركي في المتوسّط العامّ، علماً أنّ ثلثَيْ هذه التحويلات أتت من لبنانيّين يعملون في بلدان الخليج، فضلاً عن أنّ أكثر من 50% من السيّاح الوافدين إلى لبنان قبل سنة 2010 كانوا يقدمون أيضاً من بلدان الخليج، في ما يشبه ارتباطاً اقتصادياً عضوياً بين لبنان وبلدان الخليج العربي.
أيضاً في مجال الاستثمارات، تشير خرائط البحث إلى أنّ 85% من الاستثمارات الخارجية، البالغة 44 بليون دولار سنة 2009، الوافِدة إلى الاقتصاد اللبناني مصدرها رساميل خليجيّة، مع الاشارة إلى أنّ هذه الاستثمارات تذهب بشكلٍ أساسي إلى قطاع البناء. غير أنّ التقلّبات السياسية المحلّية في لبنان تؤثّر دوماً بشكل سلبي على هذه الاستثمارات الخارجية.
العُمران الجشع
يتمحور القسم الثالث من “الأطلس”، الذي أعدّه الدكتور غالب فاعور بالتعاون مع باحثين من الجامعة اللّبنانية، حول موضوع التحضّر الشديد الذي تشهده البلاد؛ حيث عرفت العقود الثلاثة المنصرمة حركةً إعمارية كثيفة جدّاً حول العاصمة بيروت، وعلى امتداد الساحل اللبناني، كما في قلب الجنوب ومحافظة عكّار والبقاع الأوسط. علماً أنّ هذه الحركة العمرانية، الشديدة والجديدة على حدّ سواء، تشير إلى بروز نمط عيش جديد، حيث تتحكّم حركة الانتقال بالسيّارة الخاصّة بالعمل بشكل أساسي. كما يشهد المجتمع ارتفاع أصوات تُطالب باحترام أكبر للمقدّرات الطبيعية التي يتمتّع بها لبنان، والخصوصيات البيئية التي تتميّز بها المناطق والشواطئ، والتي تذهب ضحيّة عمران كثيف وغير مدروس لا يلبّي سوى جشع رجال المال والأعمال.
يُضاف إلى ذلك احتلال الشواطئ واستملاكها من قبل المتنفّذين وأصحاب الشأن الذين يحرمون الناس، في بيروت كما على امتداد الساحل، من حقّهم بالاستفادة المجّانية على الشواطئ البحرية، مع غيابٍ شبه تامّ للمساحات الخضراء ضمن العاصمة.
كما يشير الباحثان فيكين أشقريان وكريستين مجاهد في هذا القسم إلى ظاهرة الأبراج العالية التي تُبنى داخل أحياء قديمة من العاصمة (حيّ فرن الحايك مثلاً) حيث يضطّر السكّان القدامى إلى بيع ممتلكاتهم ومغادرتها نظراً لغلاء المعيشة فيها وإغراءات البدائل المالية المعروضة عليهم. فنجد أنفسنا، في بيروت، أمام ظاهرة عمرانية مشابهة لتلك التي عرفتها باريس ولندن، مع عشوائية أكبر.
في القسم الرابع من الكِتاب يأخذنا أمين شعبان وشادي عبد الله إلى الوضع البيئي العامّ السائد في لبنان اليوم، حيث يشير الأوّل إلى ظاهرة ارتفاع درجة الحرارة في العاصمة بيروت أربع درجات منذ سنة 1964، بسبب كثافة البناء والسكن وعدد السيّارات المتزايد سنوياً، في ظلّ غياب سياسة للنقل العامّ داخل المدينة. أما الباحث الثاني، فيشير إلى تداعيات حرائق الغابات التي تصيب البلاد أكثر فأكثر متسبّبةً، جنباً إلى جنب مع البناء غير المدروس، في تراجع المساحات الحرجية في البلاد بنسبة 35% منذ سنة 1960.
يشير هذا القسم من “الأطلس” إلى غيابٍ لافت للمؤسّسات الحكومية في التصدّي المنهجي والاستراتيجي لمشكلات تدهور أحوال البيئة في لبنان التي ستُكلّف البلاد عاجلاً أم آجلاً، أثماناً على مستوى الصحّة العامّة والاقتصاد.
أمّا القسم الخامس من الكِتاب، فينكبّ على البحث في أزمة الخدمات العامّة؛ إذ إنّ هناك عجزاً في تأمين مياة الشفة إلى منازل المواطنين، على الرّغم من توفّر مصادر المياه والينابيع على سفوح الجبال. فالدولة لم تعمل على الاستفادة المدروسة من الطاقة المائية المتوفّرة لا في مجال الاستهلاك المنزلي ولا في مجال الزراعة حيث السدود الكافية غائبة واللّجوء إلى المياه الجوفية أكثر من المسموح.
يُضاف إلى ذلك مشكلة عدم تأمين التيّار الكهربائي بالشكل المطلوب في جميع أنحاء البلاد (ساعات تغذية محدودة)، الأمر الذي انعكس لجوءاً معمَّماً للمولّدات الكهربائية في كلّ حيّ وكلّ قرية، مع ارتفاع فاتورة الكهرباء على المواطنين. أمّا الفضيحة الكبرى التي كشفت عجز المؤسّسات الحكومية وفسادها، فقد تمثّلت في أزمة النفايات التي استمرّت أشهراً عدّة عام 2016.
وقد بيّن هذا القسم من “الأطلس”، بقلم الباحثة الفرنسية كريستيل اللاس، أنّ اللّبنانيين أنفقوا 307 مليون دولار سنة 2015 على شراء الماء، فضلاً عن اشتراكات المياه التي تُدفع لمصلحة المياه العامّة، ما يشكِّل 0,5% من الناتج القومي الصافي الذي يذهب هدراً. كما يشير التقرير إلى أنّ هناك حالياً في لبنان أكثر من 800 شركة لتوزيع المياه الصالحة للشرب في البلاد، عشر منها فقط حائز على ترخيص رسمي من وزارة الصحّة العامّة.
أمّا القسم السادس والأخير من “الأطلس”، فقد خُصِّص لحَوكمة أرض الوطن وإدارة ثرواتها، حيث تبدو التحديّات كبيرة. وتشير الأبحاث التي يضمّها هذا القسم إلى مشكلة كبيرة تتمثّل في أنّ الدولة في لبنان قد خسرت المبادرة، تاركةً لعشوائية القطاع الخاصّ وجشعه إدارة شؤون تقع، في الأصل، على عاتق القطاع العامّ. والمؤسف هنا هو أنّ معايير وأهداف القطاع الخاصّ اللّبناني وسلّم اهتماماته لا تعتبر نفسها معنيّة بمفاهيم الثروة الوطنية والمصلحة العامّة والمال العامّ، الأمر الذي يؤدّي إلى تعديل بنيوي في المشهد العمراني والاجتماعي والبيئي اللّبناني عموماً.
وفي هذا السياق يشير باحثو “الأطلس” إلى أنّ مبادرة الدولة الناجحة الوحيدة قد تمثّلت في إطلاق يد المجالس البلدية (هناك 1113 بلدية في لبنان حالياً) التي نجح قسم لا بأس به منها في الحلول مكان الدولة المركزية. فالبلديات، اللّامركزية في إدارتها، تتفاعل إيجاباً مع سكّان المحلّة أو القرية أو المدينة، وتصغي إليهم وتتفاعل معهم على نحو أفضل ممّا تفعله السلطات المركزية (الوزارات).
بيد أنّ رؤساء البلديات ومجالسها يعكسون أحياناً دينامية الانفعال فيحوّلونها إلى دينامية تفاعل، إذ يحرصون، عبر الأحزاب السياسية، على دعم مباشر من السلطات المركزية في بعض المشروعات الإنمائية المحلّية (استبدال ترانس كهربائي محروق، إقرار وتتنفيد شبكة صرف صحيّ، إلخ).
كتاب مفيد جدّاً هو هذا الكِتاب. حبّذا لو يقرأه كلّ مسؤول في لبنان لما فيه من فوائد وعبر. فعلى الرّغم من أنّه وصفيّ وخرائطيّ في المقام الأوّل، إلّا أنّه يتميّز ببلاغة تحليله للوقائع الكميّة التي يقدّمها. وبذلك يغدو “الأطلس” منتوجاً معرفياً نوعياً يسمح بولوج مشهديّة الحالة اللبنانية في واقعها الراهن… والتي لا تبدو، مع الأسف، برّاقة جدّاً.
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)