يبدو أن تزاحم الأطماع السعودية والإماراتية في اليمن أصبح من الاتّساع بما يمكن أن يهدّد معه الاستثمارات السياسية والعسكرية لكلتا الدولتين في هذا البلد، واستفادتهما من القيمة الاستراتيجية للمواقع الحيوية والحساسة فيه. ولعلّ أكثر ما يَظهر فيه هذا التزاحم بوضوح، هو محافظة حضرموت التي تناول «معهد الشرق الأوسط» في واشنطن، في أحدث تقاريره، وضْعها بعنوان «ثروات حضرموت محرّك الصراع السعودي الإماراتي في اليمن»، بالنظر إلى ما تختزنه من «احتياطيات كبيرة من النفط (حوض المسيلة)، فضلاً عن عائداتها الكبيرة من التجارة، وصيد الأسماك، والتحويلات المالية، بالإضافة إلى أهميتها الجغرافية كونها تمثّل أكثر من ثلث إجمالي مساحة البلاد، فيما يمثّل اقتصادها جزءاً كبيراً من الاقتصاد اليمني».
طوال المرحلة السابقة، حاولت المملكة إرساء نوع من التوازن بين الأطراف الفاعلة في هذه المحافظة، وعلى رأسها حزب «الإصلاح» و«المجلس الانتقالي الجنوبي»، عبر استرضاء أحدهما بامتيازات وحوافز تارة، مقابل التضييق على الآخر، والعكس بالعكس تارةً ثانية. لكنها اليوم، باتت تسعى، على ما يبدو، إلى الاستغناء عن كليهما، على اعتبار أن الاستثمار في الأول فقد أيّ جدوى له، فيما الثاني أوراقه بالكامل عند الإمارات، المنافس الشرس للمملكة.
من هنا، جاء تشكيل «مجلس حضرموت الوطني» أواخر الشهر الماضي ليكون بديلاً من «الانتقالي» و«الإصلاح» على السواء، بالإضافة إلى نشر قوات «درع الوطن» الموالية للرياض في مناطق منابع النفط، وعند منفذ الوديعة الحدودي بين اليمن والسعودية والكائن في حضرموت. والجدير ذكره، هنا، أن السعودية تبرّر تدخّلها في حضرموت بحماية أمنها القومي بسبب وقوع المحافظة على حدودها، فيما يُرجّح أن السبب في تأجّج الصراع حالياً، سعي الإمارات، من خلال الحضور المباشر أو بواسطة وكيلها «الانتقالي»، إلى السيطرة الكاملة على المحافظة. وحتى اليوم، نجحت السعودية في الاحتفاظ بالنفوذ الأكبر في وادي حضرموت (شمالاً) الذي يضمّ حقول النفط الكبيرة، في حين أن ساحل المحافظة المطلّ على بحر العرب، حيث الموانئ التجارية وموانئ تصدير النفط في المكلا والشحر، يقع تحت نفوذ القوات الإماراتية.
الآن، وفي إطار النزاع المتصاعد، تدير الاستخبارات السعودية، بحسب ما يتّهمها به «الانتقالي»، حملة منظّمة ضدّ المجلس في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، وأيضاً على الأرض، فيما يركّز الإعلام المموّل من الأخير على أن الجنوب يتعرّض لحرب شرسة وممنهجة، تقودها بعض «القوى الشمالية»، بدفع من الخارج، المقصود به بطبيعة الحال السعودية. كما يتّهم الرياض بأنها تُكيّف علاقاتها الخارجية بحسب منطق القوة والإمكانية؛ فعندما تشعر بضعفٍ مثلاً، تلجأ إلى عقد التحالفات والمعاهدات والاتفاقات بالاعتماد على «ديبلوماسية الشيكات» بدرجة رئيسة، منطلقةً في ذلك من همّها المتمثّل في الحفاظ على الاستقرار الأمني في المملكة، وخوفها من أيّ تأثيرات خارجية على الداخل السعودي. والظاهر أن هذا الشرخ المتنامي مثّل فرصة مناسبة للقوى الجنوبية المناهضة لـ«الانتقالي» لتوجيه السهام إليه، إذ ذكّر القيادي في «الحراك السلمي»، عبد الكريم السعدي، بـ«أنّنا انتقدنا في ما مضى الخطاب الانبطاحي لجماعة الانتقالي الإماراتية التكوين والولاء، تجاه المملكة العربية السعودية عندما كانت أبشع مفرداته تتلخّص في مقولة رئيسها: نحن بيد الملك سلمان يضرب بنا حيث يريد، براً وبحراً وجواً؛ لإدراكنا أن مثل هذه المفردات لا تصلح ولا تصحّ لبناء خطاب سياسي محترم وموضوعي ولا تصلح لبلوغ هدف وطني». وأضاف: «اليوم ندين وننتقد الخطاب العدائي التهجّمي الذي بلغ حدّ الفجور لهذه الجماعة ضد السعودية لنفس الأسباب».
والجدير بالذكر، هنا، أن التبدّل السعودي في التعامل مع الجنوب بدأ يظهر بوضوح أواخر عام 2021، عندما بدأت المملكة، بناءً على مراجعة شاملة لسياستها في تلك المحافظات، العمل على احتواء المكوّنات الجنوبية، وعلى رأسها «الانتقالي»، الذي أقرّ وقتها برنامجاً لإعادة تأهيله، بعدما اقتضت المصلحة السعودية عزل «الإصلاح».
وقد نشط الإعلام السعودي، حينها، في الترويج لـ«الانتقالي»، وأجرى مقابلات مع العديد من شخصياته، وفي مقدِّمهم رئيسه، عيدروس الزبيدي، الذي بدا منسجماً بالكامل مع الأجندة السعودية، وأبدى استعداده ليكون جزءاً منها، واضعاً نفسه في تصرّف ما سمّاه «مشروع الدفاع عن الأمن القومي العربي»، في ما مثّل إشارة إلى جهوزية المجاميع المسلّحة المنضوية تحت لوائه، لبدء حربها في الشمال.