أكبر من هدنة وأقلّ من تسوية | مقترح وقف النار: العدو والمقاومة يدرسان خياراتهما
يحيى دبوق

تُعدّ الخطة الأميركية الجديدة لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، محاولة جديدة لإيجاد مخرج من هذه الحرب التي باتت تراوح مكانها من دون تحقيق أهداف استراتيجية واضحة من خلالها، باستثناء استمرار الخسائر البشرية الكبيرة في صفوف المدنيين الفلسطينيين.
ووفقاً للمقترح الجديد، على حركة «حماس» أن تطلق 10 أسرى إسرائيليين أحياء وتسلّم جثث 18 آخرين، مقابل الإفراج عن عدد غير محدّد بعد من الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية. ويتم تنفيذ هذه العملية على خمس دفعات تمتد طوال فترة الـ60 يوماً لوقف إطلاق النار.
ولعل ما يميّز هذا المقترح هو تصميمه الدقيق لتوفير ضمانات عملية تمنع إسرائيل من التملّص من التزاماتها خلال فترة الهدنة، على الرغم من غياب أي تعهّد واضح فيه بإنهاء الحرب.
وعليه، فلن تكون هذه الصفقة، إذا ما أُبرمت، أكثر من هدنة مؤقتة تهدف إلى شراء الوقت، وإن ترافق طرحها مع تداول أفكار حول كيفية إقفال الصراع. والجديد ذكره، هنا، أن النسخة المحدّثة من الصفقة تختلف بشكل واضح عن تلك السابقة المعروفة باسم «خطة ويتكوف»، نسبة إلى المبعوث الأميركي للشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، والتي كانت تنص على إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين على دفعتين فقط خلال الأسبوع الأول من وقف النار.
أما الآن، فإن تقسيط عمليات الإفراج على خمس مراحل متفرقة على مدى شهرين، يعكس رغبة الوسطاء في تسهيل الوصول إلى اتفاق، وإن لم يكن كافياً لبناء ثقة حقيقية لدى الفلسطينيين بأن ذلك المسار سيؤدي في نهاية المطاف إلى وقف حقيقي للحرب.
ولعلّ النقطة الجوهرية هنا هي أن إسرائيل لن تتسلّم كل الأسرى منذ البداية، ما يخلق نوعاً من الرهان على إمكان إجبارها على الالتزام بالاتفاق حتى نهايته، حيث لن يكون بإمكانها، والحال هذه، العودة إلى التصعيد من دون تحمّل تبعات مباشرة؛ وهذا ما يحمّل العرض الجديد آلية ضغط كبيرة على الجانب الإسرائيلي. كما أنه يمنح حركة «حماس» نوعاً من الحماية السياسية والميدانية، بحيث تبقى لديها قيمة استراتيجية تتيح لها المساومة أو الضغط في حال حاولت تل أبيب التملّص من بنود الصفقة.
المقترح يقضي بإطلاق 10 أسرى إسرائيليين و18 جثة على 5 دفعات
ويبدو أن الإدارة الأميركية، إلى جانب دورها المباشر في صياغة خطة الهدنة بين إسرائيل و»حماس»، تراهن أيضاً على الاتفاق العتيد كمدخل لدفع مسار أوسع من التسوية الإقليمية، عنوانه توسيع «اتفاقيات أبراهام»، وخاصة نحو سوريا، إذ إن الاتفاق في قطاع غزة، إن تحقّق، قد يُعتبر خطوة أولى لإعادة ترتيب العلاقات الإقليمية، وفتح المجال أمام واشنطن للعب دور وسيط استراتيجي، باعتبار أن من شأنه أن يعزّز مصداقيتها في تقديم نفسها كضامن لاتفاقيات مستقبلية، بما في ذلك مع دمشق؛ وهذا ما يضيف بعداً جيوسياسياً إلى جدوى الاتفاق من المنظور الأميركي.
وبالعودة إلى جدواه المتصلة بغزة تحديداً، يبدو، بحسب ما يتسرّب عبر الإعلام العبري والأميركي ومنصات إعلامية عربية، أن الدولتين العربيتين الوسيطتين، مصر وقطر، بدأتا بالفعل في وضع اللمسات الأولى على نص الاتفاق النهائي الذي سيُفاوض عليه بعد انتهاء الـ60 يوماً.
وفي هذا الإطار، تسعى القاهرة والدوحة لإدراج بنود جديدة تُرسّخ استمرارية الحوار بين الأطراف، وتفتح الطريق أمام إعادة إعمار البنية التحتية لقطاع غزة، وتنظيم المعابر، ووضع حد للاعتداءات اليومية على المدنيين.
وعلى الرغم مما تشتمله هذه البنود من طموحات كبيرة، إلا أنها تظل في إطار عام لا يضمن تحقّقها. ومع ذلك، فإن وجود هذا الجهد من الآن يشير إلى أن الطرفين (إسرائيل و»حماس»)، وأيضاً الولايات المتحدة، يدركون أن الحديث ليس عن وقف نار مؤقت فقط، بل قد يكون عن بداية مرحلة جديدة.
وعلى المقلب الفلسطيني، وبحسب التقارير المتداولة، يَظهر أن ثمة ترحيباً لدى «حماس» بالعرض الجديد مع طلب تحسينات عليه؛ أو هذا على الأقل هو موقف القيادة السياسية للحركة في الخارج، فيما تحيط الضبابية موقف القيادة داخل قطاع غزة.
وأما التحسينات المطلوبة، فتتمثّل بزيادة معتدّ بها لعدد الأسرى الفلسطينيين الذين سيتم الإفراج عنهم، وتوسيع نطاق المساعدات الإنسانية ومنع استخدامها كغطاء لعمليات القتل اليومية، وتوفير ضمانات واضحة حول انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق المدنية في القطاع، بالإضافة إلى فتح المعابر بشكل كامل وغير مؤقت.
وتُظهر هذه المطالب أن الحركة تنظر إلى الاتفاق باعتباره خطوة تكتيكية محتملة، ولا ترى فيه التزاماً إسرائيلياً حقيقياً بإنهاء الحرب، ما يعني أنها لا تعتبره بداية إلزامية لمفاوضات أوسع؛ وهو ما يمثّل أحد أكبر التحديات أمام تبلور القرار الفلسطيني.
ومع ذلك، من المحتمل أن توافق «حماس» على العرض إذا ما تمّت تلبية بعض مطالبها الرئيسية، خاصة في ما يتعلّق بزيادة عدد الأسرى المُفرج عنهم وتحسين ظروف السكان في القطاع. لكنها لن تتخلّى على أي حال عن مبدأ المساومة الاستراتيجية، أي إنها لن تقدّم تنازلات كبيرة من دون مقابل حقيقي، خاصة أنها ما زالت تنظر إلى الصفقة باعتبارها هدنة تكتيكية.
في المقابل، لم يُتبَع إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أن إسرائيل وافقت رسمياً على الاتفاق، بأي تصريح رسمي من الحكومة الإسرائيلية حتى اللحظة، في حين تشير بعض التسريبات إلى وجود انفتاح غير معلن داخل المؤسسة الأمنية والسياسية على أفكار التسوية، شريطة تحقيق أهداف استراتيجية تشمل ضمان إضعاف «حماس» عسكرياً على نحو مستدام، وإنشاء ترتيب أمني جديد في غزة يمنع إعادة تسليح التنظيمات، والحصول على ضمانات دولية ضد أي تجدّد للتهديد الصاروخي من القطاع.
وتشير هذه التسريبات إلى أن الموقف إنما يتبلور حول إنهاء الحرب، وليس على مدة زمنية مؤقتة لوقف إطلاق النار. لكن في الوقت نفسه، ما زالت هناك مخاوف داخل المستوى السياسي من أن يُفسَّر هذا الاتفاق، أو أي امتداد له، كاعتراف بالفشل العسكري والاستراتيجي الإسرائيلي، ما يحول مسبقاً دون تبلوره، ويمدّد الحلقة المفرغة التي علقت فيها إسرائيل خلال أشهر الحرب الطويلة في غزة.
وعلى أي حال، يبدو واضحاً أن إسرائيل غير مستعدّة لتوقيع اتفاق ينهي الحرب، بل تفضّل هدنة مؤقتة تسمح لها بتحقيق بعض المكاسب، خاصةً لناحية تقليص أهمية «ورقة الأسرى» لدى «حماس»، من دون دفع ثمن سياسي أو أمني كبير.
وهذا الواقع يشير إلى أن الموقف الإسرائيلي لا يزال مؤجّلاً على أقلّ تقدير، وأن ثمة صعوبة في الاعتراف بالنتائج العملية لما بعد وقف القتال.
وكانت وضعت الحكومة الإسرائيلية لنفسها أهدافاً عالية السقوف، تشمل القضاء الكامل على «حماس» وإعادة ترتيب الوضع الأمني والسياسي في غزة، وهي أهداف لم تتحقّق، وربما لم تكن قابلة للتحقيق من البداية. ومع ذلك، فإن التراجع عنها بشكل صريح من خلال صفقة دائمة قد يُفسَّر داخلياً كاعتراف بالفشل، وهو أمر لا تستطيع الحكومة تحمّله في ظل الظروف الحالية.
ولعلّ مما يساعد أصحاب القرار في تل أبيب هنا، أن الأثمان التي تُدفع في غزة، هي من النوع الذي يمكن تحمّله نسبياً، مقارنة بالخسارة في أكثر من اتجاه ومستوى، في حال أُوقفت الحرب.
صحيفة الاخبار اللبنانية