ألف عام من البكاء
بندر عبدالحميد- عرضت المحطات العربية والأجنبية أشرطة وأفلاماً مرعبة ومرمّمة عن الحرب العالمية الأولى، في ما يشبه إعادة قراءة التاريخ بالصورة، ولا سيما للعرب والمسلمين المهتمين بتصفية الإرث الثقيل للامبراطوريتين العثمانية والنمسوية الهنغارية، في معاهدة فرساي وما بعدها. وكان للرئيس الأميركي توماس وودرو ويلسون دور بارز في التسويات الغريبة التي مهدت لانفجار الحرب العالمية الثانية (وهو يشبه الأدوار الأميركية اللاحقة في كوريا وفيتنام وافغانستان والعراق)، إضافة إلى دور الاستعمار القديم.
وكان العرب والمسلمون قبل هاتين الحربين محكومين بألوان من السلطات الغربية والشرقية في ممالك ودويلات هزيلة ومتغيرة، تعرضت فيها الثقافة العربية والإسلامية إلى التشويه والتزوير والإضافة والتضييق والتعسير والانكماش، على أيدي عتاة الملالي (الذين لبسوا عباءات العلماء)، بعد اختلاطها بالثقافات التركية والفارسية والاوردوية والآسيوية الأخرى. ومن هنا ترسخت جذور التعصب والتطرف وثقافة القتل والانتحار، وشرعنة اضطهاد النساء والأطفال، وقتل أبناء الأقليات أو طردهم من بيوتهم كباراً وصغاراً، وهم من السكان الأصليين القدامى المسالمين. ومن هنا ولدت مدرسة بن لادن و«طالبان» أفغانستان وباكستان، و«بوكو حرام» و«شباب الصومال» و«داعش» و«النصرة»، والألوية السلفية ذات الرايات السوداء واللحى الملونة، وكان انتصار ثورة الملالي في ايران مناسبة لصحوة الخلايا النائمة من التيارات المتطرفة القديمة التي شغلت الساحتين العربية والإسلامية، وأرعبت العالم في كل البلدان والقارات.
ومنذ عصر الانحطاط استمرت مصادرة البحث العلمي في الطب والرياضيات والفيزياء والكيمياء والجغرافيا والتاريخ والحب، فاختفى العلماء الحقيقيون من أمثال جابر بن حيان وبني موسى بن شاكر والجزري وابن الهيثم والكندي وابن زهر وابن رشد وابن خلدون وابن بطوطة والمسعودي. وفي موازاة حركات التطرف الديني ظهرت حركات التطرف القومي المسطحة والمدعومة بالانقلابات العسكرية الهوجاء، التي أهملت التعليم والزراعة والصناعة ودمرت النسيج الاجتماعي المؤتلف، وريّفت المدن بدلاً من تمدين الريف، وقمعت الحريات الخاصة والعامة، واكتفت بالأغاني الوطنية الهابطة والمغامرات الحربية الخاسرة.
حين انتهت الحرب العالمية، كما تقول لنا العروض التلفزيونية، توقف البكاء، وازدحمت شوارع المدن والأرياف بقبلات المحتفلين، وظن الناس أن شبح الحرب اختفى إلى الأبد، لكن هتلر الذي كان هناك وقرر أن يسيطر على العالم كله، فأشعل نار الحرب الثانية، وكان وقودها من أبناء الذين طحنتهم الحرب الأولى، فعاد البكاء، ثم مرة أخرى ظن الناس، بعد تلك الحرب الطاحنة، أن الحرب لن تعود أبداً، و«كذب الظن…»، كما يقول المعري. فها هي حروبنا المستجدة التي بدأت حول مطلب واحد هو الحرية، لتجد من يحرفها نحو حروب أهلية أو طائفية بشعة.
صحيفة الحياة اللندنية