ألكسي فاسلييف: سياسات روسيا في الشرق الأوسط
يلاحظ المرء المتابع بأن هزيمة الشيوعية في الاتحاد السوفياتي رافقها انحدار في منظومة القيم لدى كثير من الكوادر الحزبيين الشيوعيين، بمن فيهم قادة كانوا أعضاء مكاتب سياسية. مؤلّف كتاب «سياسة روسيا الشرق أوسطية: من لينين إلى بوتين» (روتليدج ـ 2018)، المستعرب الروسي ألكسي فاسلييف الذي تقلّد مواقع مهمة في الاتحاد السوفياتي وكان من المنخرطين في رسم سياسات موسكو في المنطقة وتنفيذها، يشغل حالياً موقع الرئيس الفخري لمعهد الدراسات الأفريقية منذ عام 2015. هذا الموقع منح الكاتب فرصة الوصول إلى ملاحظات الدبلوماسيين الشخصية ذات الصلة، وهو ما يلفت في هذا العمل الموسوعي.
لكن حتى نفهم محتوى المؤلف واتجاهاته وتحليلاته، فلنلقِ نظرة أولاً على قول الكاتب عن نفسه «لم أعد، كما كنت في فترة شبابي، عضو كومسومول ذا العقلية الرومانسية على استعداد لخدمة قضية «انتصار الشيوعية القادم» في أنحاء العالم جميعاً. تتبادر إلى ذهني أسئلة أكثر حدة ومرارة منها: لماذا تضرب الأفكار الشيوعية جذورها في أكثر المناطق تخلّفاً على كوكبنا؟ ولماذا تفرضها الدبابات في الدول المتقدمة مثل المجر وتشيكوسلوفاكيا وألمانيا الشرقية؟ ما الذي نحتاج إليه هنا وفي الشرق الأدنى والأوسط بشكل عام؟ هل هو النفط؟ لكن في هذا الوقت يبدو أن لدينا منه ما يكفي لنغرق فيه. أم أنه وضعنا الاقتصادي؟ لكن ليس لدينا ما نتاجر به. هل علينا طرد الشيوخ والملوك المحليين (في اليمن – ز م)؟ لكن هل يزعجوننا على الإطلاق؟ هل نستفيد أم نخسر من انتشار الشيوعية؟ لكن من «نحن»؟ الاتحاد السوفياتي؟ روسيا؟ قادة الحزب الكبار؟ المثقفون الروس؟ عامل منجم سيبيري أم فلاح عادي؟».
يقدم الكاتب تاريخاً مكثفاً لصنع السياسة الروسية في الشرق الأوسط، مع التركيز على الدول التي احتلت الأرض الجيوسياسية الرئيسة لكل من الاتحاد السوفياتي والاتحاد الروسي. نطاق عمل الكاتب وإتقانه للتفاصيل يقدّمان خلاصة تاريخية تتخللها مقابلات شخصية، ما يجعل المؤلف موسوعة مفيدة، لكنها تفتقد إلى مخططات زمنية أو خرائط. وبالنظر إلى أنّ كثيراً من مواد المصدر مكتوبة باللغة الروسية، فكان على الكاتب وضعها بالأبجدية الكيرلية أو السيرلية، في الملاحظات جنباً إلى جنب مع الحروف الرومانية.
سأركز هنا على عرض الكاتب لأهداف التدخل الروسي في سوريا. أولاً، كان هناك هدف ذو شقين: إضعاف التنظيمات الإرهابية المتطرفة داعش والنصرة وحلفائهما من التنظيمات الإرهابية، وتقوية الحكومة السورية الشرعية، أو لإنقاذها، بحسب كلمات الكاتب. في الوقت نفسه، كان الهدف اختبار القوة العسكرية المتجددة للبلاد وإثباتها. أما الهدف الثالث غير المعلن عنه، فيتعلّق ضمناً بـ «إجبار» الولايات المتحدة وحلفائها على التعاون مع روسيا في ظل ظروف سورية محددة، أولاً في المجال العسكري التكتيكي. أخيراً، الهدف الآخر غير المعلن عنه إيجاد نقاط لتعاون أوسع مع الغرب وإثبات أنه كان ضرورياً للجميع ليس فقط في الشرق الأدنى والشرق الأوسط، لكن أيضاً في أوروبا وأنحاء العالم جميعاً. لكن الكاتب لا يوضح إن كان ذلك التعاون مثمراً، مثل حالة ليبيا حيث سمحت موسكو لحلف الناتو بالتدخل عسكرياً للإطاحة بالمغدور معمر القذافي وتحول البلاد إلى ساحة حرب أهلية مدمرة لا نهاية لها بين طرفين رئيسين مواليين لواشنطن.
والكاتب لا يناقش مدى نجاح تلك السياسة في سوريا أم أنها أفسحت في المجال لاحتلال القوات الأميركية والتركية، ومعهما بعض دول حلف الناتو لشمالي سوريا وشمال غربيها.
ملاحظة ثالثة هي عدم استعراض الكاتب أحاديث قيادات ومواقع روسية عن أنّ موسكو تمكّنت من الإفادة من تواجد قواتها في سوريا، لتجربة مختلف أسلحتها الحديثة وتأثير ذلك اللغو في الشارع السوري! كما يتجاهل الكاتب الإزعاجات الرسمية الجدية التي سبّبها قيام القوات الروسية في سوريا بنقل رفات جندي إسرائيلي من سوريا إلى كيان العدو من دون معرفة الحكومة السورية، واستجابة الرئيس بوتين شخصياً لطلب نتنياهو بتسليمه دبابة إسرائيلية دفعت القوات السورية والفلسطينية لتقديم شهداء للاستيلاء عليها استجابةً لطلب القادة العسكريين السوفيات، وقدّمها الرئيس بشار الأسد هدية عربوناً للصداقة بين الدولتين والشعبين للرئيس الروسي الذي قام بتسليمها لنتنياهو غير عابئ بأثر ذلك في سوريا. وعلى الأرجح أن الكاتب لا يتجرّأ على نقد سياسات الرئيس بوتين. علماً بأن الكاتب أو ناشر النسخة الروسية شارك في تحمّل كلفة ترجمة المؤلف إلى الإنكليزية كما يوضح بند الحقوق في ص 2 من المؤلف.
كما من الواضح أن الكاتب تجاهل حقيقة أن الغرب الاستعماري لم يتغير، وجوهره العدواني المعادي للشعوب باقٍ، وأن التغير حدث في موسكو.
على أي حال، هذا مؤلف مهم للدبلوماسيين وللمحللين السياسيين، إذ إنه يشرح سياسات روسيا في المنطقة بكلمات واضحة تماماً وننصح كل مراقب سياسي بقراءته بتمعّن.