كتب

أليسا باتيستوني: هكذا فتكت الرأسمالية بالطبيعة… وحريّتنا!

سعيد محمد

تقدّم المفكرة اليسارية الأميركيّة نقداً مادياً ووجودياً للنظام الرأسمالي الذي يتعامل بنيوياً مع الطبيعة كـ «هبة مجانية» لأنّها خارج علاقة الأجر، مقوّضاً حريتنا الجماعية في إدارة علاقتنا بالكوكب

 

في لحظة تأزم تاريخي غير مسبوق، تتقاطع فيها أزمات الرأسمالية المتأخرة مع انهيار بيئي وشيك، يأتي كتاب «الهبات المجانية: الرأسمالية وسياسة الطبيعة» (منشورات جامعة برينستون) لأليسا باتيستوني، الأكاديمية والناشطة وأحد أبرز الأصوات في اليسار الأميركي الجديد، ليطرح تحليلاً مادياً عميقاً لعلاقة رأس المال بالطبيعة، لا بوصفها مجرد ضحية للجشع، بل كجزء بنيوي من منطق التراكم ذاته.

يقلب الكتاب الجدل البيئي التقليدي رأساً على عقب. بدلاً من الاستنكار في حيرة أخلاقية (لماذا لا ينبغي تسليع الطبيعة؟)، يطرح سؤالاً أكثر جذرية: «لماذا فشلت الرأسمالية، التي تسعى إلى تحويل كل شيء إلى سلعة، في تسليع أجزاء حيوية من الطبيعة؟».

الإجابة التي تقدمها باتيستوني، مرتكزةً على إعادة قراءة خلاقة لنقد ماركس للاقتصاد السياسي، تكمن في مفهوم «الهبة المجانية». هذه ليست «هبة» بالمعنى اللاهوتي أو الأنثروبولوجي، بل شكل اجتماعي رأسمالي بامتياز. «الهبة المجانية» هي الطبيعة التي تُعامل على أنها بلا تكلفة، وبقيمة تبادلية تساوي صفراً، ليس بسبب خطأ محاسبي أو عمى أيديولوجي، بل لأنها تقع بنيوياً خارج علاقة العمل المأجور التي تشكل نواة إنتاج القيمة في الرأسمالية.

مركزية الأجر الأنثروبولوجية وتجريد الطبيعة

في قلب تحليلها، تضع باتيستوني ما تسميه «مركزية الأجر الأنثروبولوجية». ففي ظل الرأسمالية، الكائن البشري هو الوحيد القادر على بيع «قوة عمله» كسلعة منفصلة عن شخصه مقابل أجر. هذه العلاقة الفريدة تجعل من العمل البشري المصدر الوحيد للقيمة التبادلية. أما كل «العمل» الآخر الذي تقوم به الكائنات والعمليات غير البشرية — من تلقيح النحل للمحاصيل، إلى قدرة المحيطات على امتصاص الكربون، إلى خصوبة التربة —، فيُعامل على أنه بلا أجر، وبالتالي بلا قيمة في السوق. إنه يقدم قيمة استعمالية هائلة، ولكن قيمته التبادلية صفر.

ولتوضيح كيف أصبح هذا التعامل أمراً واقعاً، تستعير باتيستوني مفهوم «التجريد الواقعي» من الفيلسوف ألفرد زون-ريتل، مؤكدةً أن معاملتنا للطبيعة كـ«هبة مجانية» ليس مجرد فكرة في رؤوسنا، بل هو ممارسة اجتماعية تتجسد في كل عملية تبادل. عندما نشتري بنطال جينز مثلاً، فإننا، وبشكل غير واعٍ، نقيم عمل المزارع والخياط، ولكننا نقيّم عمل الشمس والماء والتربة الذي أسهم في إنتاجه بـ«صفر». هذه ليست أيديولوجيا مفروضة، بقدر ما هي النتيجة المادية لنظام قائم على التبادل السلعي والعمل المأجور.

من المصنع إلى المحيط الحيوي: تشريح الهبة المجانية

تتجلى قوة كتاب باتيستوني في قدرتها على تتبع هذا المفهوم المحوري عبر مجالات مختلفة من الحياة الاقتصادية والاجتماعية. ففي المصنع، تُظهر كيف يستغل رأس المال «هبتين مجانيتين»: قوى الطبيعة المروضة عبر الآلات، وهبة التعاون البشري التي تزيد الإنتاجية من دون كلفة إضافية.

لكنها تشير أيضاً إلى أن رأس المال يتخلى عن السيطرة المباشرة على القطاعات «القائمة على الطبيعة» (كالزراعة وصيد الأسماك) التي تقاوم الترشيد، مكتفياً بالهيمنة عليها تجارياً. وفي البيئة، تقدم قراءة نقدية لمفهوم «الآثار الخارجية»، حيث لا يعود التلوث مجرد «أثر جانبي»، بل هو الوجه الآخر للهبة المجانية: «مادة فائضة» بقيمة استعمالية سلبية، تفرض الرأسمالية تكاليفها الصحية والبيئية على أجساد العمال وبيئاتهم دون مقابل.

أما في المنزل، فتخوض باتيستوني حواراً نقدياً مع النسوية الماركسية، وتحديداً أطروحة سيلفيا فيديريتشي، لتقدم تفسيراً مادياً لتجاهل قيمة العمل المنزلي. فبدلاً من التفسير الأيديولوجي، ترى أن هذا العمل يقاوم بطبيعته زيادة الإنتاجية والأتمتة، ما يجعله غير مربح، فيتخلى عنه رأس المال ليتم أداؤه مجاناً. وأخيراً، في المحيط الحيوي، تنتقد محاولات تسعير «رأس المال الطبيعي»، موضحة أن الفشل في تحويل خدمات النظم البيئية إلى سلع يعود إلى استحالة «تسييجها» مادياً، ما يجعل رأس المال يتخلى عن مسؤولية الحفاظ عليها.

الحرية الملتبسة في مواجهة الرأسمالية

لكن ما الخطأ في كل هذا؟ هنا، يتخذ الكتاب منعطفاً فلسفياً جريئاً. بدلاً من الاكتفاء بنقد الاستغلال أو التدمير البيئي، تجادل باتيستوني بأن المشكلة الجوهرية في الرأسمالية هي أنها تحدّ من حريتنا الإنسانية، التي تعرفها بالاستناد إلى الفلسفة الوجودية لسارتر وسيمون دو بوفوار، بوصفها «إمكانية أن نختار أن نكون شيئاً آخر غير ما نحن عليه، وأن نتحمل مسؤولية قراراتنا».

تقوض الرأسمالية هذه الحرية عبر آليتين: «حكم الطبقة»، الذي يمنح قلة من الناس سلطة تشكيل عالمنا المادي عبر قرارات الاستثمار الخاصة بهم، و«حكم السوق»، الذي يجبرنا جميعاً على اتخاذ قرارات تتماشى مع منطق الربح التنافسي، بغض النظر عن قيمنا الأخلاقية. نحن مجبرون على معاملة الطبيعة كـ«هبة مجانية»، ليس لأننا أشرار، بل لأن بنية النظام لا تترك لنا خياراً آخر.

هذه «الوجودية المادية» التي تطورها باتيستوني تقدم نقداً يتجاوز الاستغلال الاقتصادي البحت، ليلامس أعمق مستويات الاغتراب: اغترابنا عن قدرتنا الجماعية على تقييم عالمنا وتحديد شكل علاقاتنا مع الكائنات غير البشرية بوعي ومسؤولية. إنها دعوة لاستعادة السياسة كفعل واعٍ لـ«صناعة الكوكب» بدلاً من ترك هذه المهمة للقوى العمياء للسوق ورأس المال.

سلاح نظري لمعركة العصر

يقدم كتاب «الهبات المجانية» مساهمة فكرية استثنائية في زمن الأزمات، ويسلّحنا بفهم أعمق لمنطق الرأسمالية في عصر الأنثروبوسين، كاشفاً أن تدمير البيئة ليس مجرد «كلفة» خارجية، بل نتيجة مباشرة للطريقة التي تنتج بها الرأسمالية القيمة عبر تجاهل كل ما لا يمكن إخضاعه لعلاقة الأجر.

قد يرى بعضهم أنّ استنادها إلى الوجودية يمثل ابتعاداً عن الماركسية التقليدية، ولكنه في الحقيقة إغناء لها، فباتيستوني لا تتخلى عن التحليل الطبقي، بل تعمّقه عبر استكشاف أبعاد الحرية والمسؤولية الجماعية التي دائماً ما كانت في صلب المشروع الاشتراكي.

إن كتاب باتيستوني ليس مجرد إضافة أكاديمية، بل هو أداة فكرية ضرورية لكل من يسعى إلى تفسير العالم الذي تلتهمه الرأسمالية، ويأمل بتغييره نحو مستقبل تسوده حرية حقيقية ومسؤولة تجاه كوكبنا والكائنات التي نتشارك معها هذا الوجود الهش.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى