أمين معلوف مسكوناً بهواجس المقتلعين (مسعود ضاهر)
مسعود ضاهر
في روايته الملحمية الجديدة «التائهـون»، الصـادرة بـتـرجـمـتها العربية (أنجزتها نهلة بيضون – دار الفارابي)، يرسم أمين معلوف سيرة شلّة من الطلاب كانوا ينتمون إلى طوائف لبنانية متعددة، يدخلون الحياة الطالبية، بأيديهم كؤوس، وفي قلوبهم تمرد، ويتحاورون حول كيفية بناء عالم جديد يليق بطموحاتهم الكبيرة. كانوا أصحاب كفاءة، ولديهم الشجاعة في ممارسة حياتهم اليومية وإبداء آرائهم بحرّية. كان لديهم طموح مشترك لتغيير العالم نحو آفاق أكثر عدالة وإنسانية. قرأوا سير العظام من أمثال فولتير، كامو، سارتر، نيتشه والسورياليين فأرجعتهم الحرب مسيحيين ومسلمين ويهوداً، وبات عليهم تحمل ما رافق تلك الحرب من مآس وأحقاد.
كان لبنان بآليته الهشة يغرق ويعاني خللاً يصعب إصلاحه. وما إن وعوا تلك الحقيقة، حتى اتجهت أفكارهم نحو الرحيل عن الوطن من دون تفكير بالعودة. اضمحلت الطائفة اليهودية في لبنان بعد أن رحل بعض أبنائها إلى إسرائيل، واختار بعضهم الآخر الاستقرار في دول متعددة. صديق الراوي، اليهودي، رحل إلى البرازيل. ومع أن صديقه الثاني كان شاعراً وزير نساء، إلا أنه رغب في الانضمام إلى ميليشيات الحرب الأهلية. حمل بيده رشاشاً ليطلق النار على الحي المقابل، فقتل ليلاً بقذيفة.
كان صديقه الثالث يحضر للانتحار حين خطفه رجل كان خُطف ابنه الوحيد وهو مهندس. كان يزمع على مبادلته. ففي سنوات الحرب، جرت عادة خطف الأشخاص لاستخدامهم كعملة للمقايضة بين عائلات المخطوفين من المعسكرين المتحاربين. وحين تأكد الوالد من مقتل ابنه، ومن نية المخطوف على الانتحار، تعاطف معه وأطلق سراحه، وخاف عليه أن ينتحر. فحرص على تسليمه لأحد أصدقائه الذي أسرع في ترحيله إلى أميركا عبر باريس. كان المخطوف فقد أباه وأمه صغيراً. وحين شعر بصدق الرجل الخاطف وزوجته ونبل معاملته الإنسانية وهو المنكوب بولده الوحيد، بادلهم الشعور الإنساني بمثله، وتعاطف معهما عبر الرسائل الجميلة وبعض المال كما لو كانوا أهله الحقيقيين.
أما صديقته التي غادر أهلها مصر بعد ثورة 1952 فوظفت بعض ما جناه والدها في لبنان. بنت فندقاً يحمل اسمها، وقررت البقاء في وطنها على رغم المشكلات التي تعرضت لها، بخاصة مأساة حبيبها الذي قتل بقذيفة.
صديق آخر كان من أسرة غنية، اختار البقاء في الوطن لكنه قرر الارتهان لأحد زعماء الحرب حفاظاً على أملاكه. وبسبب طموحه إلى الزعامة رفعه «المفوض السامي» الجديد إلى درجة وزير. فتنقل من حكومة إلى أخرى ومن حقيبة وزارية إلى أخرى. وارتفع كالكرة الضخمة الممتلئة بغاز الهليوم نحو العدم، ليصبح نافذاً ومشهوراً وثرياً بصورة شنيعة. صديقان آخران أسسا شركة هندسية كبيرة، وأصبحت لهما شهرة واسعة، وثروة طائلة. استقر أحدهما في عمان، ودخل الثاني إلى أحد الأديرة، لأسباب عائلية وشخصية.
الراوي – الكاتب
بطل الرواية الذي يوحي بشخصية الكاتب، غادر لبنان إلى باريس في سن الثامنة عشرة وعاد إليه في سن الثامنة والأربعين. بات يعتبر فرنسا بلده كما لبنان. ولطالما اعتقد أصدقاؤه أنه هاجر بسبب نزوة، لكن القرار الذي اتخذه بالرحيل كان بعد طول تفكير. تخيّل ما سيحل بلبنان والمنطقة بعد سنوات الحرب الطويلة. لم يكن يرى من حوله سوى العنف والتخلف، ولم يعد لديه موقع، فرحل مطمئن البال من دون أن يعتريه الندم. كان على قناعة بأن الرحيل عن الوطن سنّة الحياة، وأحياناً تفرضه الأحداث. يهمه العالم بأسره وليس فقط البلد الذي ولد فيه. لكنه تابع أخبار لبنان عن كثب من دون أن يفكر لحظة بالعودة إليه للاستقرار فيه مجدداً، فلبنان الذي عهده في صباه لم يعد موجوداً إلا في مخيلته.كان يزعم أنه لم يرحل إلى أي مكان بل من رحل هو لبنان. قرر الرحيل عنه حين كان بوسعه البقاء فيه. لكل إنسان الحق في الرحيل، وعلى وطنه أن يقنعه بالبقاء. «وعلى وطنك أن يفي ببعض التعهدات إزاءك، ومنها أن تعتبر فيه مواطناً عن حق، وألا تخضع فيه لقمع، أو لتمييز، أو لأشكال من الحرمان بغير وجه حق. ومن واجب وطنك وقياداته أن يكفلوا لك ذلك، وإلا فأنت لا تدين له بشيء. لا بالتعلق بالأرض، ولا بتحية العلم. فالوطن الذي بوسعك أن تعيش فيه مرفوع الرأس، تعطيه كل ما لديك، وتضحي من أجله بالنفيس والغالي، حتى بحياتك. أما الوطن الذي تضطر فيه للعيش مطأطأ الرأس فلا تعطيه شيئاً، سواء تعلق الأمر بالبلد الذي استقبلك أم ببلدك الأم. فالنبل يستدعي العظمة، واللامبالاة تستدعي اللامبالاة، والازدراء يستدعي الازدراء، ذلك هو ميثاق الأحرار، ولا أعترف بأي ميثاق آخر».
لقد تغير لبنان. كان لديه أعز الأصدقاء بين اليهود، وبين المسلمين، ومن الطوائف الأخرى. لكن أصدقاءه كانوا بمثابة منديل على عينيه كالشجرة التي تخفي غابة الطائفية. وعندما اندلعت الحرب أعادت غالبية اللبنانيين اصطفافها وراء طوائفها تحت ستار الدفاع عن الطائفة فحلت جماعة المؤمنين محل الأمة.
ومثلما غيرت الثورة اتجاهها فهي ظلت لفترة طويلة حكراً على التقدميين، ثم تلقفها المحافظون. تبدلت الأمور في العالم بسرعة ما بين صيف 1978 وربيع 1979. انتصرت الثورة الإسلامية في إيران، وبدأت ثورة محافظة في الغرب. وفي الصين، قامت ثورة جديدة حادت عن الاشتراكية وأفضت إلى انتعاش اقتصادي مذهل. أصبحت الغلبة لليمين على المستوى العالمي، ولم يعد اليسار يهتم سوى بالمحافظة على المكتسبات السابقة.
التائه الباريسي
يفرض الوضع الجديد على التائه الباريسي ورفاقه أسئلة صعبة. كان يواجه على الدوام بمعضلة تحديد هويته. فإلى أي فريق ينتمي، هو العربي المسيحي الذي يعيش منذ وقت طويل في فرنسا؟ إلى فريق الإسلام أم إلى الغرب؟ وعندما يصرخ مراراً: «إنهم يكرهوننا بقدر ما نكرههم»، فإلى أي من الفريقين ينتمي؟
ولا ينسى الروائي العالمي الانتماء، تقديم رؤية شمولية عن عالم يسير نحو الانحلال والزوال. كان القرن العشرون قرن الفظائع العلمانية، وسيكون القرن الحادي والعشرون قرن العودة إلى القمع. استعبدت الشيوعية البشر باسم المساواة، واستعبدتهم الرأسمالية باسم الحرية الاقتصادية. وبالأمس كما اليوم أصبح الله ملاذاً للمهزومين، وملجأهم الأخير. فثمة مصيبتان رئيستان في القرن العشرين: الشيوعية ومناهضة الشيوعية. وهناك مصيبتان رئيستان في القرن الحادي والعشرين: الأصولية ومعاداة الأصولية. لذلك، لم يعد التائه الباريسي يتقبل الكلام عن الثورة وأوهام الربيع العربي المفضي إلى حكم «الإخوان المسلمين» وفقدان المستقبل. ولبنان الذي يحزنه غيابه ويؤرقه، ليس ذاك الذي عرفه في شبابه بل ذاك الذي حلم به من دون أن يبصر النور. ويبدو أن المشرق كله لن يتغير لأنه يعج بالعصابات والرشوة، والتمييز على أنواعه. وهو لن يقبل خيار التكيف مع هذا الوضع، ولن يتسامح مع اللبنانيين الذين تكيفوا معه. يريد لوطنه أن يكون أقل رجعية، وأقل فساداً، وأقل عنفاً. لا يجهل عيوب وطنه الأم، لكنه لا يشعر بالرغبة في العودة إليه إذا كان مدفوعاً دوماً نحو الرحيل.
قرر العودة فقط لملاقاة صديقه الذي تسلق المراتب، وجمع ثروة كبيرة من خلال تعامله مع بعض المتنفذين، وللدفاع عن أهله ولصون تراث ما ورثه عن أجداده حارب كالوحش الضاري. لم يكن له الود، وكانت العودة بسبب إلحاح زوجة المريض الذي توفي قبل وصوله إلى لبنان. قرر البقاء لجمع شمل الأصدقاء. لم يكن من السهل العودة إلى الوطن بعد سنوات الحرب الطويلة التي أفقدت لبنان الكثير من معالمه، ولم يبق الناس على حالهم. فبدا غريباً على تراب وطنه ولاحقاً في أرض المنفى. وبات على قناعة بنهاية الحضارة المشرقية بسبب سيطرة أنصار الهمجيات، وأتباع العشائر المنفلتة من كل الضوابط بسبب الحرب على لبنان لم يسلم بيت أو تسلم ذكرى. فأفسدت الصداقة والحب والإخلاص وصلات القربىوالإيمان، وحتى الموت. لذلك، رفض إفلات المجرمين من العقاب حين يقال إن من بقي متعلقاً بالوطن اضطر الى إيجاد بعض التسويات، والقبول بتنازلات قادته إلى خيانة القيم المشتركة التي كانت الجماعة تؤمن بها. لكنه بات على قناعة تامة بأن اللبنانيين لا يتمتعون دوماً بالحرية التي يتغنون بها. فكان على العائد إلى وطنه بعد ربع قرن أن يكون شديد التحفظ في بلده، ووسط أهله، وفي المدينة التي ترعرع فيها. إلا أن القدر كان أقوى منه، فمنع جمع شمل الشلة مجدداً على أرض الوطن بصورة مأسوية.
هكذا، ترسم نهاية الرواية مأساة اغتراب اللبنانيين، الطوعي أو القسري، عن وطنهم، كما رواها كاتب لبناني عميق الانتماء إلى لبنان الرسالة الذي حلم به وعمل من أجله.
صحيفة الحياة اللندنية