أنا أضحك .. أنا موجود…
بعض الناس يبرّر وجوده وحضوره بالضحك والقهقهة والبعض الآخر بالعبوس والتجهّم أمّا من يلتزم الحياد أو ادّعاء الحياد فهم فئة عادة ما تزعج الطّرفين.
كان المرحوم “عزمي موره لي” شاعراً يكتب بالفرنسية و أرستقراطيّاً في كّل شيء – حتّى في ابتسامته ـ إذ لم نشاهده يوماً يضحك… حفاظاً على هيبته. قلت له يوماً مستغرباً من تجهّمه الدائم: (أغلب الظنّ أنّك تعود إلى مزرعتك مساءاً، تغلق الباب على نفسك كمن يغيّر ملابسه وتضحك. ) فابتسم ربع ابتسامة أظنه ندم عليها فيما بعد ..! وكان مجالسنا الصديق “زهير ” يضحك للهواء والذباب والصمت والبكاء فنظر إليه عزمي باشا شذراً ثمّ قام بحركة لا معنى لها (غيّر وضعيّة القدّاحة على الطاولة ) وانفجر في وجه زهير غاضباً: (هيّا..اضحك الآن يا زهير !) فانفجرنا ضاحكين.
أعتقد أنّ الضحك يشبه الاشمئزاز من حيث المفهوم في كونه ردّة فعل على سلوك أو فكرة تجانب المنطق الذي يسكننا ونظنّه صحيحاَ فلطالما أضحكتنا أو ضايقتنا ثقافات وعادات في الأفراح والأتراح وطرق التحيّة والأكل والجلوس، فمن منّا لم كن يوماً ضحيّة لمفارقات لغويّة أو لعادة يجهلها لدى غيره (أذكر أنّي ارتشفت فنجان القهوة المرّة في مجلس عزاء بأحد ضواحي دمشق ورفعت صوتي متباهياً بإتقاني لهذا الطّقس– دايمة يا جماعة ـ ..!)..ومن حسن حظي أنهم فهموا “قلة حيلتي اللغوية ” فاستقبلوا الأمر بابتسامة أعقبها درس مجاني في ” أدب العزاء “.
ثمّة شيء يجعل الواحد أكثر استعداداً للضحك دون غيره وهو طريقة الاستقبال وزاوية النظر وروح السخرية وملكة الفكاهة، فمن الناس من يضحكه شكل الكرة الأرضية من الفضاء الخارجي وتهافت البشر على قتال بعضهم البعض، ومنهم من تضحكه مفردات أو تسميات بعينها، بل أنّنا إذا ذهبنا بعيداً و أعدنا النظر في كلّ شيء وبسؤال الجدوى النهائيّة يصبح كل شيء مضحكاً إلى حدّ العبث والفزع.
لو أسعفتنا الذاكرة لتذكّرنا كيف كنّا رضّعاً نبكي ونضحك لأسباب نجهلها ودون لغة وقواعد في النحو والصرف. كبرنا وصرنا نعرف كيف نفرمل ضحكنا ودموعنا وغضبنا ونتجاهل أتعاباً نظنّها عاديّة وولدت معنا وها أنا الآن أتصفح دفتراً قديماً وأقرأ سطوراً لم أنكرها ولم تنكرني منذ سنوات :
“تعبت من وجهي، يبتسم لي ويمازحني في مرآة البيت ثمّ يتنكّر لي
ويتجاهلني في مرايا المصاعد والمكاتب والواجهات وأيّام الغضب.
تعبت من صوتي، هو الآخر يباغتني بالهمهمة أمام امرأة جميلة وبالسكوت أمام شخص وقح وبالتلعثم أمام منبر ممل.
تعبت من كلّ شيء يباغتني، زمّور سيّارة، مكان أنا فيه، فكرة تريد أن تهشّم رأسي وتطير..
أمّا أنا فلم أتعب سوى الحقيبة التي أقبض عليها منذ أيّام الدراسة الأولى ولم أضف إلى محتوياتها شيئاً يذكر سوى فرشاة أسنان وجواز سفر .”