أنقرة في الشمال السوري: زيادة في الإفقار وتعطيل للتنمية… المناطق المسيطر عليها تركياً بشكل مباشر أو غير مباشر، لم تشهد ما يؤشر إلى وجود رغبة تركية في ضمها إلى الأراضي التركية أو البقاء فيها لمدة زمنية طويلة غير محددة.
هل تخرج تركيا من الأراضي السورية؟ هذا السؤال يشهد نقاشاً واسعاً منذ أشهر، وتحديداً منذ أن بدأت اللقاءات السورية التركية في موسكو بحثاً عن آفاق جديدة تنهي حال العداء التي تمر بها حالياً علاقات البلدين.
يتركز معظم النقاشات والتحليلات على نقطتين أساسيتين؛ الأولى تتمثّل بالغاية الحقيقية التي دفعت أنقرة إلى احتلال أراضٍ سورية، فهل هي فعلاً لحماية أمنها القومي كما تعلن أو أن لها مطامع جغرافية في الأراضي السورية؟ والنقطة الأخرى تتعلق بالعلاقة المفترضة بين الخطوة التركية والوجود الأجنبي غير الشرعي داخل الأراضي السورية، وتأثيراته تالياً في مسار تطورات الأزمة السورية.
نحن هنا لن نحاول الإجابة عن هذا السؤال من خلال طرح فرضيات سياسية والانتقال إلى برهنتها، كما هو شائع، إنما سنحاول بيان وضع المناطق التي تحتلها أنقرة في الشمال السوري، وتلك التي توجد فيها نقاط عسكرية وتدعم القوى الموجودة على الأرض.
وسنركز في دراسة الوضع على نقطتين: الأولى الواقع الحالي لهذه المناطق اقتصادياً واجتماعياً مدعوماً ببعض البيانات والمؤشرات والتقديرات الإحصائية، والأخرى هي الآفاق التي كان يمكن أن تعمل عليها أنقرة لتمييز هذه المناطق عن غيرها.
منهكة اقتصادياً
بعد نحو شهرين تقريباً، يكون قد مضى نحو 7 سنوات على أوَّل تدخّل عسكري مباشر ومعلن لأنقرة في سوريا، وهو الأمر الذي أسفر في عملياته اللاحقة عن احتلال القوات التركية مدناً وبلدات سورية موزعة على 3 محافظات هي: حلب، والرقة، والحسكة.
ورغم ما شهدته تلك الفترة من افتتاح أنقرة مشروعات عدة كانت غايتها القيام بعملية تتريك واسعة لتلك المناطق، ومحاولة إحداث تغيير ديموغرافي يلبي احتياجاتها السياسية والأمنية، فإنَّ تلك المناطق بقيت، كغيرها من عموم المناطق السورية، تعاني أوضاعاً اقتصادية ومعيشية صعبة، وهذه هي أيضاً حال المناطق الخاضعة لسيطرة هيئة تحرير الشام المدعومة تركياً، وتحديداً مدينة إدلب وأجزاء من ريفها.
السبب في ذلك لا يعود فقط إلى ما لحق بالاقتصاد التركي من تضخم، وما شهدته الليرة التركية من انخفاض، إنما إلى السياسات التركية في التعامل مع أوضاع هذه المناطق ومدى اهتمامها بتطويرها وتنمية مواردها، والذي كان في أدنى مستوياته، بدليل أن معدلات التضخم في هذه المناطق كانت قريبة جداً من معدلات التضخم المسجلة في مناطق سيطرة الحكومة السورية، وفي مناطق سيطرة “الإدارة الذاتية”.
تظهر مثلاً بيانات المركز السوري لبحوث السياسات، وهو جهة بحثية مستقلة تعمل خارج سوريا، أنَّ وسطي التضخم الشهري للرقم القياسي العام لأسعار المستهلك بلغ على مستوى سوريا 5.4% خلال فترة المسح الذي جرى خلال الفترة الممتدة بين شهري تشرين الثاني/نوفمبر 2020 وحزيران/يونيو 2022.
وقد سجلت مناطق الحكومة السورية معدّل التضخّم الأعلى بين مناطق السيطرة بنسبة %5.4، تليها مناطق “الإدارة الذاتية” بنسبة 4.8%، وأخيراً مناطق الفصائل المسلحة المدعومة تركيا بنسبة 4.6%.
وتضيف تلك البيانات أنّ مناطق سيطرة الفصائل في إدلب وريف حلب سجلت أعلى نسبة تضخّم عام، وأعلى نسبة تضخّم غذائيّ خلال النصف الأول من العام 2022 مقارنة بالمناطق السورية الأخرى.
ووفقاً لمساهمة مجموعات الاستهلاك الرئيسية في التضخم، كانت مساهمة مجموعة الأغذية والمشروبات غير الكحولية هي الأعلى بنسبة%37.0 من وسطي التضخم الشهري لمناطق سيطرة الفصائل خلال فترة المسح، تلتها مجموعة السكن والمياه والكهرباء بنسبة 31.5%، ثم مجموعة النقل بنسبة 7.5%، فمجموعة الاتصالات بنسبة 6.9%.
تتبلور الصورة أكثر مع استعراض تقديرات المركز المذكور لخطوط الفقر بمستوياته الثلاثة، والتي تشير إلى أن أعلى قيمة لخط الفقر المدقع للأسرة سُجّلت في مناطق سيطرة الفصائل المدعومة تركياً، وقدرت بنحو 826 ألف ليرة سورية، فيما كان قيمته على المستوى الوطني تبلغ وسطياً نحو 645 ألف ليرة.
كذلك الأمر بالنسبة إلى خطّ الفقر الأدنى للأسرة، حيث مناطق سيطرة الفصائل أولاً، إذ كان بقيمة 1.2 مليون ليرة سورية. أما قيمة خط الفقر الأعلى، فوصلت إلى مليون ليرة في تلك المناطق في مقابل 1.4 مليون ليرة على المستوى الوطني. وقد سجّلت محافظة إدلب أعلى قيمة لخطّ الفقر الأعلى.
وبناءً عليه، فإنّ المناطق المسيطر عليها تركياً بشكل مباشر أو غير مباشر، وإذا ما تم استثناء بعض المشروعات المحدودة، لم تشهد ما يؤشر إلى وجود رغبة تركية في ضمها إلى الأراضي التركية أو البقاء فيها لمدة زمنية طويلة غير محددة، وإلا كانت كمن يستنزف نفسه.
هذا الاستنتاج ليس تبرئة لأنقرة ومشروعاتها السياسية والاقتصادية في المنطقة، ولكن محاولة لوصف ما يجري فعلاً، ولا سيّما أن بعض تلك المناطق، بما تملكه من موارد وموقع جغرافي، كان يمكن أن يتحوّل إلى مناطق اقتصادية مزدهرة فعلاً.
فرص للتنمية
أن تحوّل أنقرة المناطق التي تسيطر عليها أو التي تملك فيها نفوذاً إلى أسواق استهلاكية لسلعها ومنتجاتها، ومنطلقٍ لتهريبها إلى مناطق سيطرة الحكومة السورية، شيء، وأن تعمل على تنميتها وتطويرها اقتصادياً شيء آخر تماماً؛ فالحكومة التركية، وعلى مدار السنوات السبع الماضية، اتبعت سياسة اقتصادية في التعامل مع هذه المناطق تقوم على النقاط التالية:
– تحويل هذه المناطق إلى مجرد أسواق لتصدير منتجاتها وسلعها إليها، بدليل ما تعلنه البيانات الإحصائية التركية الرسمية من قيم صادرات البلاد إلى سوريا، والتي تفوق ما كان يصدر عام 2010، رغم أن الحكومة السورية تمنع استيراد أو دخول أي سلعة تركية إلى أسواقها منذ العام 2012.
– تقييد عملية دخول السلع والبضائع المنتجة في تلك المناطق إلى الأراضي التركية، وما يشكّله ذلك من إحباط ومحاصرة للفرص التنموية المتاحة في تلك المناطق. وحتى عند السماح بإدخال بعض المنتجات، فإن ذلك يتم عبر شبكة من التجار والسماسرة الأتراك، وهو ما يقلل قيمة الفائدة المتحقّقة للمزارعين والمنتجين الحرفيين والصناعيين المحليين.
– الحرص على تثبيت الوضع الراهن جغرافياً واقتصادياً، رغم أن أنقرة كان بإمكانها تغيير ذلك فيما لو كانت تريد البقاء طويلاً في تلك المناطق. مثلاً، هناك فرص اقتصادية كثيرة لتنمية تلك المناطق، كتحويل إدلب مثلاً إلى منطقة اقتصادية حرة، من خلال ربطها مباشرة بخط تجاري مع ميناء إسكندرون، أو الاستفادة من خصوصيتها الزراعية لإعادة إنعاش إنتاجيتها الزراعية المعروفة، أو المحافظة كحد أدنى على المساحات المزروعة في مناطق ريف حلب والرقة وعدم السماح لفصائلها وقواتها بتدمير الغطاء النباتي والأشجار المثمرة…
– تجلّت أكثر ماهية الموقف التركي من هذه المناطق مع زلزال شباط/فبراير الماضي، فإلى جانب عدم تقديم تركيا أي مساعدات إغاثية عاجلة، سواء من منظور مسؤوليتها كسلطة احتلال في تلك المناطق أو من منظور إنساني، فقد عرقلت السلطات التركية وصول المساعدات الأممية والدولية، بذريعة عدم جاهزية الطرقات والبنى التحتية.
هذا الأمر تسبّب بمعاناة آلاف الأسر المشردة والمتضررة، والأهمّ تأخّر عمليات الإنقاذ وانتشال العالقين تحت الأنقاض، ولا سيّما أن الأضرار في تلك المناطق كانت توازي تماماً حجم الأضرار التي وقعت في المناطق التركية مركز الزلزال.
ورقة تفاوضية
ما سبق يجب أن يدفعنا إلى البحث عن الوجه الآخر للوجود التركي في الشمال السوري؛ فإذا كان وضع المناطق التي تحتلها تركيا يتنافى مع فرضية المطامع الجغرافية التوسعية لحكومة إردوغان، فإن ذلك يعني أن احتلالها تلك المناطق ليس أكثر من ورقة تفاوضية على دورها في الملف السوري، ومحاولة ترسيخ نفوذ مؤثر لها في مسيرة الأزمة السورية ومستقبلها.
هذا ربما ما يجعل مسألة الانسحاب التركي من الأراضي السورية خاضعاً لبازار سياسي لمسؤولي حكومة إردوغان، فتارةً يقولون إنَّ وجودهم ليس احتلالاً، وتارة أخرى يؤكدون أن قواتهم باقية حتى زوال التهديد الإرهابي، وتارة ثالثة يتحدثون عن إمكانية تحقيق مطالب دمشق بالانسحاب في مقابل تطبيع للعلاقات بين البلدين وما إلى ذلك!