أنور حامد في عودة مرتقبة إلى فلسطين الحرّة
بعد «حجارة الألم»، و «شهرزاد تقطف الزعتر في عنبتا»، و «جسور وشروخ وطيور لا تحلق»، و «يافا تعد قهوة الصباح»، و «جنين ٢٠٠٢»، تأتي رواية «التيه والزيتون» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) للكاتب والناقد الفلسطيني أنور حامد، لتحكي عن أمكنة تلاشت وأحباب تشتتّوا، وأقارب فقدوا من دون وداع… عن غريب سرق الأرض وأخذ معها الأمن والأمان، وابتسامة الروح. «غريب جعلنا مجرد أرقام على الشاشات أو في دفاتر الإحصاءات، سواء ضحايا أو إرهابيّين، لا فرق، فنحن نموت، سواء بهذه الطريقة أو تلك». تجمع «التيه والزيتون» النقيضين بين الضياع والتشتّت من جهة، وثبات الجذور في الأرض من جهة أخرى، ما يثبّت أثر نظريّة العامل النفسي في نتاجات الأدباء، إذ يبقى هو حافز الكتابة لديهم، وبؤرة سردهم.
حكاية العبور
تتحرّك الرواية على مستويين متوازيين: مستوى درامي، ومستوى موضوعي. تتشكّل في المستوى الأول (الدرامي) قصة حب غير مألوفة بين روائي كهل وإحدى قارئاته، في منتصف العشرينات من عمرها. أما المستوى الموضوعي فيجسّده الواقع الفلسطيني، بأسلوب هادئ جداً، بعيداً من الصراخ والخطابة والمبالغة في الحوارات.
إنها رواية من صنع الخيال، كما ذكر الكاتب في مستهلّها. لكنّ هذا الخيال تشكل واندمج وأعيدت صياغته ليصبح مشابهاً الواقع، إذ إنّ البطل/ الراوي، يتكلّم عن نفسه وعن أفكاره وسلوكيّاته التي قد تتشابه مع أفكار الكاتب الحقيقي وقد تختلف. يتآمر الاحتلال والقدر ليتركا «غصة» في روحه ووجدانه، وتتآمر سطوة العادات والقيم الاجتماعية لتحسم علاقة حب عصفت به، اتسمت وتيرتها بالجنون وتأرجحت إيقاعاتها بين متناقضين: تواصل حميمي، يعقبه فجأة صمت وغياب.
يستغلّ الكاتب قصّة الحب ليعكس من خلالها دور الفيسبوك في الحياة المعاصرة، فيعتمده كأحد العناصر الفنية المؤثرة في بنية الرواية. فترى الراوي يستعين به كوسيلة تواصل مع الآخر، على عكس من قد يعتبره وسيلة إلهاء وتضييع للوقت.
يسرد الراوي، الدكتور نمير حمدان، حكاية وصوله إلى مطار تل أبيب للمشاركة في أمسية في حيفا، المنطقة التي تعترضك للوصول إليها حواجز ونقاط تفتيش متشددة، فيحدّثنا عن خوفه قبل الدخول إلى المطار، وكأنه سيخوض معركة يصرّ فيها على الانتصار، ليلقى أمّه المريضة وأحبابه في الضفة الغربية. يكسب المعركة من دون معرفته بأنه منع من دخول الضفة الغربية بختم من مواطن فلسطيني درزي، يدعى جمال. وهي معركة تخفي وراءها دلالات كثيرة، رفع فيها البطل راية النصر بحصوله على الجواز الأوروبي الذي جعله يشعر بالأمان، لوجود حكومة قوية تقف معه، «سأدخل بلدي بجلد سائح بريطاني».
عاد نمير إلى وطنه، فأخذ يحاور كل بقعة فيه، مسترجعاً زمناً عزيزاً. أسئلة كثيرة مرّت في باله بعد غربة زادت أيامها شوقًاً وحنيناً إلى وطنه، غربة يملك الغريب وحده مفتاحها. عاد البطل إلى وطنه، مسترجعاً حكايات مدنه. يافا مثلاً مدينة شهدت شوارعها معارك وتظاهرات، ولا تزال رائحة الدم تفوح منها، شاهدة على تضحيات شعبها، مدينة تختزن في ذاكرتها الصلوات وأصوات المآذن وأجراس الكنائس لتؤكد هوية المكان. أما عكا فهي البحر والسور والأسواق القديمة وجامع الجزار، عكا التاريخ الذي يتردد صداه في أزقتها، وأحياناً في النكات وفي الأغاني العكاوية.
شخصيات وطوائف
يحدّثنا الراوي عن بعض الشخصيات التي التقاها. شخصيات من أديان وطوائف مختلفة، جمعتهم الأيام وشتتتهم الهوية: «نحن أبناء وطن واحد، نعيش في مدينة واحدة، نواجه مصيراً واحداً، ينكّلون بنا ويميّزون ضدنا من دون تفرقة».
ومن بين هؤلاء الشخصيّات، سمر الفتاة المسلمة التي سرقت قلبه بجنونها وعنفوانها، نراها حينًا قوية الشخصية، ذكية، ثم لا تلبث أن تصبح هشة، ضعيفة، لا تقوى على التوازن العاطفي، حتى تصبح «المتشردة في براري الغواية»، كما يصفها الشاعر والروائي منير وهو يفكر فيها. سمر التي لم تتمكن من مواجهة أهلها والخضوع لأوامرهم، الفتاة التائهة، التي تئن تحت المعاناة المزدوجة من الاحتلال الإسرائيلي، وسلطة الأعراف والتقاليد وتقديس الشرف. ثمة أيضاً أمل، المسلمة التي تزوجت جمال الدرزي، فانفصل كلاهما عن حياة عائلته، وعاشا وحيدَين كغرباء في أوطانهم. جمال الذي باع وطنيته لليهود الإسرائيليين، يرى أن ما فعله هو الطريقة الوحيدة للتعايش مع الواقع وتحقيق أحلامه. هناك أيضاً منال، الفتاة التي تسعى إلى تعليم السيدات المتزوجات سرّاً، من دون علم أزواجهنّ، حفاظاً على حياتهنّ.
تخلل الرواية مشاعر حزن على فراق، ومشاعر حب، وعلاقة غير مشروعة، قد لا تكون قريبة إلى الواقع ولكنها أضافت شيئًا من الرومنطيقية والإيحاءات التي حركت مشاعر قرّاء الرواية.
تتواصل أحداث الرواية ويصبح الراوي أكثر تعلقًا بمحبوبته التي دخلت قلبه فجأة دون استئذان، كالطيف الذي يظهر ويختفي بلا مبرّرات وبلا عنوان، ليصبح تائهًا في معركة النسيان، يلجأ إلى البحر والشرب لينسى ولكن من دون جدوى، فينوي الذهاب إلى الضفة الغربية حيث والدته وعائلته. وهنا تبدأ مأساته، بعما يعلم بعدم قدرته على دخول الضفة. لكنّ أمل تطرح مساعدتها، فتزرع أملاً بلقاء أمه التي أصبح حالها أكثر سوءاً. لا يساعده القدر في الوصول إلى أمّه، فيقف مناجياً إياه طالباً منه التمهّل، كي لا يسرق مَن كانت حضناً دافئاً له.
لكنّ القدر يغدره حين يأخذ منه أمه، فيصبح يتيماً وغريباً داخل أرضه ووطنه. لم يتمكن من إلقاء نظرة الوداع عليها، بعدما منعوه وضربوه حتى أدخلوه في غيبوبة أحلامه. وربّما كانت الغيبوبة أرحم من عذابهم وتسلّطهم، فعبرت به الحاجز وأوصلته للقاء أحبته.
في روايته الجديدة «التيه والزيتون»، ينجح أنور حامد في جذبنا نحو واقع مرير يعيشه شعب فلسطيني، عانى وما زال يعاني بسبب مأساة إنسانية لم يشعر بها سواه، بعدما تخلى عنه الجميع وأغلقوا الأبواب كلّها في وجهه.
انتهت روايته وعاد نمير محملاً بالأحزان ليغادر وطنه، فيمرّ من الحاجز عينه الذي صادفه وقت الوصول، فيطلب منه جمال مغادرة البلاد من دون رجعة، ليرد عليه واثقًا بجوابه «أنا راجع عالبلاد… فقدت أمي وخسرت حبيبتي ولكن أمل باقية حرّة وغيرها كثيرين. سأعود يوماً إلى وطني، وإلى أرضي، ولن يمنعني الغريب من دخولها».
صحيفة الحياة اللندنية