
لديّ عادة غريبة بعض الشيء لا أعلم إن كان من المناسب الإفصاح عنها أم لا، لكنّ ما أعلمهُ هو أنّ أصابعي المتجمّدة منذ مدّة تريد أن تلوذ بالكتابة عن شيء ما يمنحها بعضاً من الدفء والراحة، بشرط أن يكون بعيداً كلّ البعد عن أسباب هذا التجمّد العام الذي يجعل من حبالنا الصوتيّة تعاني من بحّة شديدة سواء في حال صمتنا بشكل تامّ أم تكلّمنا بكثرة.
عادتي الغريبة تلك قد يعتبرها البعض نقطة ضعف، وقد يعتبرها آخرون غباءً أو ربما جنوناً، ولا بدّ من وجود مَن سيمتنع عن تصديقها، لكنني سأقول بأنّني اعتدت عليها واعتادت عليّ، وبهذا يكون الارتياح سيّد الموقف، لذا لن أمانع في الكشف عنها حتى لو أصبحتْ محطّ استهجان.
العادةُ صاحبةُ تلك المقدّمة التشويقيّة الطويلة؛ هي أنّني ببساطة لا أهتمّ بالتقويم كثيراً، أي أنني عندما يسألني أحدهم عن اليوم، أنظر إلى شاشة الهاتف بشكل تلقائي دون أن أفكّر في الإجابة من عقلي، ولهذا أرجو ألّا يستغرب أحد إن قلتُ لهُ بأنّني لا أتذكّر فيما إذا كان اليوم هو الاثنين أم الثلاثاء في حال لم يكن هاتفي معي، وألّا ينزعج أصدقائي إن لم يصدف أن نظرتُ إلى التاريخ في أيام أعياد ميلادهم، وألّا يظنّني رفاقي في الجامعة أراوغُ في عدم معرفتي لموعد تقديمنا للامتحان التالي!
حقّاً أنا أتأسّف بشدّة لكلّ ذلك، لكنّني بالتأكيد لو عرفت تحديد اليوم لسارعتُ لإجابةِ سائلي مباشرةً ولَما قلتُ له بأنني لا أعرف، ولو كنت قد علمتُ بأنّه يوم عيد ميلاد أحد أصدقائي لما تجاهلتُ ذلك أبداً ولأرسلتُ إليه معايدة ولو بسيطة علّها تُدخل بعضاً من الفرحة إلى قلبه، ولو عرفتُ موعد الامتحان التالي؛ لَما لجأتُ إلى إظهار جهلي بموضوعٍ هامّ كهذا!
لكنّها عادةُ العاداتِ التي نرتاحُ إليها؛ نسمحُ لها بأن تدورُ وتدورُ في مكانها ذاته طالما أنّنا نشعر بأنّها تديرُ عجلةَ أيامنا على نحوٍ مناسب.
وممّا لا بدّ من ذكره هنا هو أنّ قولي بأنّني لا أهتمّ بالتقويم، لا يعني إطلاقاً أنّ ذلك ينطبق على الساعة، فبالنسبةِ لفتاةٍ كان لُغزَيْ طفولتِها الأكبرين، اللذين أمضت وقتاً طويلاً تحدّق فيهما، وتحاول كشف سرّ تحرّكاتهما؛ هما عقرب الدقائق وعقرب السّاعات؛ فلا أظنّ بأنّهُ من المستغرب أن يكون لهما ذلك الأثر البالغ في شبابها أيضاً.
إنني أُثمّنُ كلّ دقيقة وكلّ ساعة في يومي، وأؤمن بأنّ الحقيقة الوحيدة في هذا العالم التي أقبضُ كفّي عليها وأشعر بها بكلّيّتي هي هذه اللحظة التي أكتب فيها الآن هذه الجملة، وما الماضي والمستقبل في نظري سوى أوهامٍ رفيعة تخيطها عقولنا بمهارة منقطعة النظير كوسيلةٍ أزليّة ابتكرناها للهروب من حاضرنا.
وأمّا لمَن سيسألني عن حالِ مواعيدي في ظلّ تلك البلبة كلّها، فأدعوه لأن يطمئنّ تماماً فهي دقيقة للغاية ولم يسبق لي أن أخللتُ بأحدها أو أن نسيته أبداً إلّا لظروف قاهرة خارجة عن إرادتي، وذلك بالطبع ينطبق على التواريخ الهامّة التي أتفقّدُ وجودها أوّل كل شهر، حتّى أنّني أسمّي الأشهر بأسمائها أحياناً، كأعياد ميلاد أقرب الأشخاص إليّ، والمناسبات التي يبقى تاريخها محفوراً في قلبي قبل ذاكرتي بشكلٍ يمنعني من نسيانها!
أفكّرُ الآن بأنّ عدم نسيان تلك التفاصيل الصغيرة – مهما كثُرت المشاغل – قد يكون من النتائج الإيجابيّة لعادتي الغريبة تلك، فاعتيادنا على عدم الاكتراث لأمرٍ ما عندما لا نشعر بتميُّز معيّن متعلّق بهِ؛ سيجعلنا نهتمّ به بشكلٍ مضاعف إن نحنُ شعرنا بذلك التميّز في بعض المرّات، وبذلك سيكون تفويت ذلك الأمر المميز تصرّفاً شديدَ الصعوبة لا نقوى عليه.
وبالنظر إلى تلك القناعات التي ذكرتُها، والتي لستُ أجزم بصحّتها على الإطلاق، سيبدو أنه من الصعب على شخص مثلي أن يشعر بمرور الأعوام بسهولة، وهذا صحيح تماماً فأنا أشعر بتبدّلاتِ الصباح والمساء، بتوالي الفصول، بتكّات عقرب الدقائق، بإشارات الصح التي أكتبها في قائمة مهامي، لكنني لا أشعرُ بانقضاء عامٍ كامل على كلّ تلك التحوّرات الفريدة إلّا بوجود أمر مميّز جداً يجعلني أنتبه إلى مُخرج العرض المسرحي وهو يقول: كاات.. اقطعْ.. ليعلن الانتقال إلى مشهد جديد، بديكور ونَصّ وإضاءة وموقع منفصلين تماماً عن سابقاتها.
قد يمنحني يوم ميلادي جزءاَ من ذلك الشعور إلّا أنّهُ ليس بالدرجة التي أرغبُ بها، وباعتباري من الأشخاص الذين يفرحون لمجرّد رؤية الفرح يجوب الطرقات ويطرق أبواب الناس على اختلاف عقائدهم وألوانهم وأشكالهم، أجدني أستمتع بكل الأعياد والمناسبات التي ترفع راياتها فوق بعض أشهر السنة كأيام مميّزة تجمع البشر على قول عبارات “المحبّة” و”السّلام” و”الشّكر”، مثل رأس السنة الميلاديّة الذي ينظرُ فيه أغلب سكان العالم إلى السماء نظرة واحدة، وعيد الأضحى الكبير الذي لا عيد بقداسةِ طقوسه ومعانيه، وعيد المولد النبويّ يومَ أنار به الرسولُ ذا الخُلُق الأعظم كلّ عتمات البشريّة، كما لا أخفي توقي لرؤية احتفال صديقاتي وعوائلهنّ بعيد النيروز الذي ترقص فيه الأرض احتفالاً بقدوم الربيع، وعيد الحبّ الذي تتلألأُ فيه العيون وتتلوّن السماء بالأحمر الناريّ الذي يطهّر القلب، ويوم فيساك الذي يكتمل فيه قمر البوذيين ويضيئون شموعهم بأنوار التراحم والإنسانيّة، كما لا أستطيع إلّا أن أقف مندهشة أمام ضخامة وغرابة مهرجان كومبه ميلا الهندوسي الذي يُعقد كل اثنتا عشر عاماً في الهند ويوصف بأنه أكبر تجمّع بشري.
لكل تلك التواريخ جماليّتها وخصوصيّتها في نظري، إلّا أنّ التاريخ الوحيد الذي يجدّدُ روحي ويُذكّي ذهني وقلبي بالكثير من معاني الحكمة الإلهيّة دفعة واحدة، ويجعلني أشعر بحقّ بمرور عامٍ كامل بين انقضائه وحلوله؛ هو وحده شهرُ رمضان، الشّهرُ الفضيل الذي لا نكون بعدَهُ كما كُنّا قبله، فيا أهلاً وسهلاً ومرحبا.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة