
يوثّق كتاب «عملية غضب الرب» التاريخ السري الرهيب لتواطؤ أجهزة الاستخبارات الأوروبية مع الموساد في حملة اغتيالاته ضد المناضلين الفلسطينيين
في مساء 16 تشرين الأول (أكتوبر) 1972، وبينما كان المترجم والمثقف الفلسطيني وائل زعيتر يدخل بهو مبنى شقته في روما، اندفع تجاهه رجلان وأفرغا في جسده إحدى عشرة رصاصة. رصاصة عن كلّ رياضي إسرائيلي قُتل في عملية ميونخ التي نفذتها منظمة «أيلول الأسود» لاحتجاز رهائن بغرض مبادلتهم بمعتقلين عرب وفلسطينيين في السجون الإسرائيلية خلال دورة الألعاب الأولمبية الصيفية في مدينة ميونخ في ألمانيا الغربية عام 1972.
دائماً ما صوّرت هذه الحادثة، التي دشنت حملة الاغتيالات الإسرائيلية المعروفة باسم «عملية غضب الربّ»، على أنها عمل انتقامي جريء ومنفرد لجهاز الموساد. لكن ماذا لو لم يكن الموساد وحيداً؟ ماذا لو كانت الأجهزة الأمنية الأوروبية التي أدانت حكوماتها الاغتيالات علناً، هي نفسها التي قدمت للموساد المعلومات الاستخباراتية اللازمة لتحديد الهدف وتنفيذ الجريمة؟
هذه هي الأطروحة الصادمة والجذرية التي تقدمها أفيفا غوتمان، المحاضرة في الإستراتيجيا والاستخبارات في جامعة «أبيريستويث» في كتابها الثمين: «عملية غضب الرب: التاريخ السري للاستخبارات الأوروبية وحملة اغتيالات الموساد» (Operation Wrath of God: The Secret History of European Intelligence and Mossad›s Assassination Campaign ــــ منشورات جامعة كامبريدج ــ 2025).
تعتمد الباحثة على أكثر من 40,000 وثيقة غير منقّحة من أرشيف «نادي بيرن» السري، لتقلب عبرها السردية التقليدية رأساً على عقب: تكشف أنّ حملة الاغتيالات الإسرائيلية لم تكن مجرد عملية إسرائيلية، بل كانت مشروعاً أوروبياً ــ إسرائيلياً مشتركاً، وإن بشكل غير معلن.
الدولة العميقة الأوروبية في خدمة الموساد
تكمن أهمية الكتاب في كشفه الآلية المؤسسية لهذا التواطؤ: ما يُعرف بـ «نادي بيرن». تأسس هذا النادي عام 1969 كتجمّع سرّي لرؤساء أجهزة الاستخبارات الداخلية في ثماني دول أوروبية غربية. لكنه سرعان ما توسّع ليضم شركاء من خارج أوروبا، أبرزهم الموساد و«مكتب التحقيقات الفيدرالي» الأميركي. بعد عملية ميونخ، أُنشئت قناة اتصال مشفرة خاصّة بمكافحة ما سمّي بـ «الإرهاب الفلسطيني» تحت الاسم الرمزي «كيلوواط».
توضح غوتمان كيف تحولت هذه القناة إلى أداة حيوية لعملية «غضب الرب». فالأجهزة الأوروبية لم تكتفِ بتزويد الموساد بمعلومات استخباراتية هائلة حول نشطاء فلسطينيين – أماكن سكنهم، أرقام هواتفهم، مسارات رحلاتهم، والأسماء المستعارة التي يستخدمونها – بل ذهبت إلى أبعد من ذلك. بعد كل عملية اغتيال على أراضيها، كانت هذه الأجهزة ترسل تقارير الشرطة المفصلة وآخر مستجدات التحقيق عبر قناة «كيلوواط»، لتصل مباشرة إلى القتلة أنفسهم. وبهذا، كان الموساد على اطلاع دائم بما تعرفه السلطات الأوروبية، والثغرات في عملياته، وكيف يمكنه تحسين عملياته القادمة لضمان الإفلات من العقاب.
على سبيل المثال، بعد اغتيال وائل زعيتر، أرسلت الاستخبارات الإيطالية (SISDE) تفاصيل لوحة أرقام سيارة الهروب، واسم المستأجر المستعار، وحتى الرسم التقريبي لوجهه. وبعد اغتيال محمد بودية في باريس بعبوة ناسفة في سيارته عام 1973، شاركت الاستخبارات الفرنسية (DST) فرضية الشرطة بأنّ الانفجار كان «حادثاً عرضياً» أثناء نقل بودية للأسلحة، ما منح الموساد تأكيداً بأن غطاءه لم ينكشف.
نفاق الدولة البورجوازية والنظام الأمني الموازي
لا يقدّم كتاب «عملية غضب الرب» تأريخاً ضرورياً لدور أجهزة الاستخبارات الغربيّة في صنع الحدث التاريخي فقط، بل يعرّي الطبيعة المزدوجة للدولة البورجوازية الغربية. بينما كانت الحكومات الأوروبية، مثل حكومة إدوارد هيث في بريطانيا، تتخذ مواقف علنية نقدية تجاه إسرائيل (وصلت إلى حد رفض تزويدها بقطع غيار للدبابات خلال حرب 1973)، كانت أجهزتها الأمنية – دولتها العميقة – تتعاون بشكل وثيق مع الموساد في قمع حركة التحرر الوطني الفلسطينية واغتيال مناضليها.
هذا التناقض ليس مجرد نفاق ديبلوماسي لحكومات عابرة، بل هو جوهر عمل الديموقراطيات الغربيّة التي تسعى إلى الحفاظ على مصالحها الأمنية والاقتصادية وعلاقاتها بالدولة العبرية بأي ثمن.
تسمّي غوتمان هذا الواقع نظاماً أمنياً موازياً، إذ تعمل أجهزة الاستخبارات بشكل مستقل عن قيود السياسة الخارجية الرسمية والرقابة العامة والبرلمانات. في هذا الفضاء السري، تتلاشى الاعتبارات الأخلاقية والقانونية، وتصبح لافتة «مكافحة الإرهاب» غطاءً للتعاون مع أقذر أجهزة الاستخبارات في تنفيذ عمليات قتل خارج نطاق القضاء على الأراضي الأوروبية.
لقد كانت الحكومات الأوروبية تمارس لعبةً مزدوجة: الحفاظ على علاقات جيدة مع الدول العربية من أجل النفط والمصالح التجارية، وفي الوقت نفسه، تشارك سراً في عمليات تصفية الكوادر السياسية والعسكرية الفلسطينية التي تهدد هذا الاستقرار.
تحطيم الأسطورة: الموساد ليس كلي القدرة
أحد أهم إنجازات الكتاب تحطيمه لأسطورة الموساد كجهاز كلي القدرة والمعرفة. تُظهر غوتمان بوضوح أنّ الموساد كان يعتمد بشكل كبير على شركائه الأوروبيين، ولولا المعلومات التي قدمتها أجهزة مثل MI5 البريطانية، وBfV الألمانية الغربية، وDST الفرنسية، لكانت عملية «غضب الرب» أكثر صعوبةً، إن لم تكن مستحيلة في هذا النطاق. حتى في فضيحة ليلهامر الشهيرة عام 1973، عندما قتل الموساد نادلاً مغربياً بريئاً يدعى أحمد بوشيكي ظناً أنّه علي حسن سلامة – قائد عمليات «أيلول الأسود» -، يكشف الكتاب أنّ الصورة التي استخدمها عملاء الموساد للتعرّف إلى الهدف (بشكل خاطئ) كانت قد وصلتهم من جهاز MI5 البريطاني.
عبر هيكله السردي الذي يتبع الاغتيالات والهجمات المضادة – اغتيالاً باغتيال وهجوماً بهجوم -، يقدّم الكتاب رؤية شاملة لا تقتصر على عمليات الموساد، بل يخصص فصولاً كاملة لتحليل هجمات منظمة «أيلول الأسود» أيضاً وكيف تعاونت أجهزة «نادي بيرن» بغرض إحباطها. وبهذا، يتوالى النص كأنه رواية جاسوسية حقيقية، مليئة بالتفاصيل المشوقة التي تجعل القارئ يعيش في قلب «حرب الظلال» التي دارت رحاها في شوارع أوروبا خلال عقد السبعينيات.
من ميونخ إلى غزة: أهمية الكتاب اليوم
لا تكتفي غوتمان بسرد أحداث الماضي، بل تربطها بشكل مروّع بالحاضر. في خاتمة كتابها، تشير إلى أنه كما ولّدت أحداث ميونخ 1972 عملية «غضب الرب»، فإن هجمات السابع من أكتوبر 2023 أدت إلى تشكيل وحدة اغتيالات إسرائيلية جديدة باسم «نيلي» (Nili)، مهمتها مطاردة وتصفية كل من شارك في الهجوم.
والسؤال الذي يطرحه الكتاب ضمنياً: هل ستقدم القوى الأوروبية والإقليمية مرة أخرى الدعم الاستخباراتي المعهود لهذه الحملة الجديدة من القتل خارج نطاق القانون؟ وإذا فعلت، فهل ستتمكن من إخفاء تواطئها لخمسين عاماً أخرى؟
كتاب أفيفا غوتمان عمل تأريخي استثنائي، يقدم الرواية الأكثر موثوقيةً وتوثيقاً لعملية «غضب الرب» حتى الآن، ويجرؤ على كشف الحقيقة غير المريحة للتواطؤ الأوروبي العميق ضد الفلسطينيين. إنه كتاب لا غنى عنه لكلّ من يهتم بتاريخ الاستخبارات، والصراع العربي ــ الإسرائيلي، والطبيعة الحقيقية لعمل الديموقراطيات الغربيّة، حيث تُصنع السياسات الأكثر خطورة في الظل، وينفذ القتل وترتكب الجرائم بعيداً من أعين الشعوب التي تدّعي تمثيلها.
صحيفة الأخبار اللبنانية