أي سوريا ؟ …لإعادة البناء
أخلو إلى نفسي كل يوم و قد إكتظت بالمعلومات عن بلادي كي أطرح على ذاتي هذا السؤال الصعب : ماذا تبقى من سوريا التي عرفناها في الأربعينات والخمسينات كجمهورية تحررت من الإستعمار الفرنسي و غدت جمهورية مستقلة ذات نظام برلماني ديمقراطي يبشر بالخير لولا الإنقلابات التي تتالت عليها و ظلت مع ذلك محافظة على هوية بلد ذي خصوصية بازة و متقدمة نسبياً على معظم الأقطار العربية الأخرى ..
غير أن الاحداث الأخيرة أطاحت بسوريا التي عرفناها حتى ليقال أن الخراب العمراني الذي نزل بها يحتاج إلى أكثر من أربعين مليار دولار لإعادة إعمار المدن و القرى المدمرة ؟ و لكن من يعيد إعمار الخراب الذي نزل بمشاعر و أفكار و طموحات السكان عامة بعد هجرة ملايين السوريين طلبا للسلامة ؟
ماذا تبقى لديهم إذ عادوا من الشجاعة الأدبية وغير الأدبية ومن التفاؤل ومن الطاقات الفكرية عموماً عن حب الوطن والتمسك بأرضه وعاداته و تقاليده بعد أعاصير الرعب والإرهاب والدمار وطوفان القتل وسفك الدماء وهجمة تسونامي الكراهية والتعصب واليأس المطلق . وماذا يصنع الناس حيال مناطق النفوذ الأجنبي الرابض كالقضاء والقدر من خلال تدخل الدول الكبرى كالولايات المتحدة الأمريكية وروسيا ، والدول المجاورة مثل تركيا و لبنان و العراق و إيران إلى نشاط الأكراد في الشمال الشرقي من البلاد من خلال سيطرتها على محافظات بأكملها هناك …؟!
أي سوريا سيعاد بناؤها عمرانياً و ثقافياً و نفسياً وميدانياً ؟ وهل سيزداد نقوذ الدول الكبرى والمجاورة أم سيهدأ حين تنسحب هذه الدول بأكملها و تعود إلى الوطن خصائص سوريا المفقودة إلى مكانها الطبيعي في جمهورية مستقلة بكل ما يعنيه الإستقلال من مكان؟
ثمة أمل واحد هو أن يتقن النظام السوري الحاكم تعامله مع حلفائه كصديق لا يتنكر لصداقتهم ولا يرضى في الوقت نفسه على التنكر منهم لأصول الصداقة النزيهة ، كما في تعامله مع معارضيه جميعاً في سلة واحدة ، ففي إمكانه أن يكسب من بينهم المعارضة البناءة التي لا تؤمن بإستخدام العنف ، ولا تتردد عن المشاركة في مشاريع التنمية الحقيقية للفكر والإقتصاد والتقدم الحضاري عموماً .. و هكذا ممكن في تصورنا أن سوريا الطبيعية بتاريخها العريق في ميادين التقدم والإبتكار والتنمية منذ عصور الفينيقيين الذين إخترعوا أول حروف اللغة و إلى الأرميين الذين إستعان المسيح بلغتهم الأرامية التي ما تزال موجودة في “معلولا” حتى الأن كرمز حي من رموز الحضارة في سوريا القديمة و إلى اليونانيين أو الرومانيين الذين ذابوا في جنات الحضارة السورية العريقة ثم إلى العرب المسلمين و غير المسلمين الذين أنقذوا بداوتهم الصحراوية في معاشرة السوريين القدامى إلى حضارة إسلامية جديدة مطعمة بمؤثرات سورية أموية في بلاد الشام فإلى العثمانيين الذين اقتبسوا الكثير من حضارة بلاد الشام السورية إلى الفرنسيين الذين اخترعوا كلمة “إنتداب ” لاستعمارهم الحديث لأن سوريا قاومتهم و نجحت في إقناعهم أن أهلها حضاريون ،إلى زمن الاستقلال عن الإنتداب الإستعماري و الظفر بجمهورية برلمانية ديمقراطية … و كأنها صارت أيقونة صادقة خالدة ترمز و تعمل معا للحق والعدالة والحرية والسلام.
تلك هي سوريا منذ آلاف السنين إلى يومنا هذا وهي الديار القادرة فعلاً على اللحاق بركب الحضارة و كلنا مع هذا الركب السوري الحضاري العريق اليوم وغداً وإلى الأبد.