إدارة جو بايدن في الشرق الأوسط: الإمبراطوريّة تعدِّل المسار
مضت أشهر قليلة على إدارة بايدن في البيت الأبيض وهي كافية لرسم معالم السياسة الأميركيّة نحو العالم العربي والإسلامي. وعند الحكم على السياسة الأميركيّة الخارجيّة (الداخليّة والخارجيّة، لكن الخارجيّة بصورة خاصّة) من الضروري عدم الانجرار وراء توجّهات تغطية الإعلام الغربي الليبرالي لبايدن. وعصر الإنترنت ساعد على خلق وهم «القرية الواحدة» ويظن البعض في لبنان، مثلاً، أنهم يشاركون في الحملة الانتخابيّة الأميركيّة وتجد الواحدة في بيروت أو الواحد في عجلتون وهو يناصر هذا المرشّح أو ذاك. وظهر في الانتخابات الأخيرة مدى تأثير الدعاية الانتخابيّة الأميركية المُوجَّهة إلى العالم والتي على أساسها تروِّج أميركا لنفسها ونظامها. تريد أميركا أن تقول للعالم—خصوصاً النامي—إن ليس من ديمقراطيّة خارج أسوار هذه البلاد. أو هي، عندما تسخى في الحكم، تأخذ في الاعتبار الديمقراطيّة في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا. ولو عدنا إلى المنهج الدراسي المُقرّر في الجامعات الأميركيّة العريقة في المنتصف الأوّل من القرن العشرين، لكنا وجدنا أن علم السياسة المقارنة لم يكن إلا علم المقارنة بين النظم السياسيّة في البلدان الأربعة المذكورة (كانت ثورة في التعليم الجامعي في السياسة المقارنة عندما صدر كتاب سامويل هانتنغتون وزبغنيو برجنسكي، «السلطة السياسيّة: الولايات المتحدة الأميركيّة\الاتحاد السوفياتي» في عام ١٩٦٤ لأن الكتاب خرج عن فرضيّات وتوجّهات الأكاديميّة الغربيّة في عدم إعارة نظم سياسيّة خارج المنظومة الاعتبار الأكاديمي). الإعلام الغربي يبالغ كثيراً في الفروقات بين الأحزاب—وحتى بين برني ساندرز والحزب الديمقراطي—فيما الفروقات هي أقلّ مما تبدو عن بعيد. الإعلام الليبرالي يروّج لليبرالية الغربية. هاكم وهاكنّ حزب ماكرون في فرنسا وهو باتَ يفاجئ خصومه في «التجمع الوطني» في مجاهرته بالبغضاء والكراهية للإسلام والمسلمين. (لكن الرجل يُستقبل في لبنان على أنه صديق العرب والمسلمين ومُخلّص لبنان من الطبقة السياسيّة—يعني حصراً من جبران باسيل).
حاول بايدن في حملته الانتخابيّة التشديد على الفروقات بينه وبين ترامب، كي يجذب الجمهور الليبرالي الذي يستطيع أن يعزّز من نسبة الاقتراع للحزب الديمقراطي خصوصاً بين السود وبين طلبة الجامعات. والانتخابات في أميركا (كما في لبنان) باتت متقاربة في النتائج بين فريقيْن متصارعين، ونسبة الاقتراع—لهذا الطرف أو ذاك—تستطيع أن تحسم النتيجة. باراك أوباما في عام ٢٠٠٨ حقّق نتائج باهرة لأنه استطاع أن يجذب ناخبين وناخبات جدداً، حتى من البيض. ليس لبايدن هذا السحر الكاريزماتي، ولهذا فإن مهمّته كانت في تعزيز سمعته الليبراليّة—المستحدثة. هذا رجل من قلب المؤسّسة الجمهوريّة-الديمقراطيّة في السياسة الخارجيّة، وهي تميل إلى التصلّب والتشدّد والحروب. وفي السياسة الداخليّة بايدن كان في موقع المحافظين في داخل الحزب الديمقراطي. لم يتحرّر بايدن من ثقل القاعدة الانتخابيّة المحافظة في ولاية ديلاوير إلا بعد أن أصبح نائباً للرئيس، عندما ظنّ أنه لم يعد أمامه من حملات انتخابيّة. وبايدن كان المرشح الرسمي للصحافة الرأسمالية الليبراليّة، ولهذا بالغ في إسباغ وعود خالية من المصداقية في حملته الانتخابية.
ابن سلمان: المصير المعلّق
ليس من المبالغة القول إن مصير محمد بن سلمان معلّقٌ في يد بايدن. بايدن يستطيع أن يحيي محمد بن سلمان وأن يميته، أن يرفعه إلى العرش، أو أن يطيحه. لا يمكن لمحمد بن سلمان أن يرتقي إلى العرش إذا لم يرضَ عنه جو بايدن. بايدن يقرّر من سيكون الملك المقبل في السعوديّة بعد وفاة الملك سلمان. محمد بن سلمان لم يعد حرّاً كما كان في عهد ترامب (كان التواصل بينه وبين جاريد كوشنر يوميّاً على الـ»واتسآب»)، وإن كانت حريّته مقيّدة لأن رضى ترامب عنه كان مشروطاً بنفقات باهظة لصفقات أسلحة ولتقرّب مستمرّ مع الحكومة الـ«إسرائيل»يّة. مقابل الامتثال لأوامر كوشنر، سمحت إدارة ترامب لمحمد بن سلمان بالقيام بمغامرات، من خطف واعتقال الحريري إلى قتل خاشقجي إلى تسعير الحرب الوحشيّة في اليمن. بايدن قيّد نفسَه بوعود في الحملة الانتخابيّة إذ هو وصف الحكم السعودي بالنظام «المارق» (هذه ترجمة رديئة لكلمة إنكليزيّة لكن هذه المصطلحات يُترجمها عادة عاملون في منظمات الأمم المتحدة من العرب الأميركيّين أو المستشرقين الأوروبيّين). لم يكتفِ بذلك بل وعد بايدن بمحاسبة محمد بن سلمان على جريمة قتل خاشقجي—والأخير عزيز على قلوب أسوأ الصحافيّين العاملين في واشنطن. (هؤلاء أحبّوا خاشقجي ليس فقط لأنه كان «مُدبِّر الإعلام» لأكثر من أمير سعودي وكان يسهّل عمل المراسلين الغربيّين في المملكة بل لأنه أيضاً كان في سنة معارضته في واشنطن يوقّع على مقالات تقول ما يريد الصحافيّون الليبراليّون الغربيّون أن يقولوه بلسان عربي—لكن بالإنكليزيّة لأن للبروباغندا أحكاماً لغويّة). بايدن قال إنه لم يجد أي جانب حسن في شخصيّة محمد بن سلمان.
أدرك ابن سلمان أن زمن ترامب قد ولّى وأن هناك ثمناً لرضى بايدن عنه. تأخر بايدن في مهاتفة الملك سلمان كما أنه اشترط عدم وجود محمد بن سلمان أثناء المكالمة، كأنه يستطيع أن يضمن ذلك. حتماً كان محمد بن سلمان حاضراً للمكالمة الوجيزة. الأثمان التي يتوجّب على محمد بن سلمان دفعها باهظة: الاستمرار في طلبات مشتريات السلاح الذي يضخّم الخزانة الأميركيّة، وإنهاء حرب اليمن. كما أن أميركا سمحت لـ «إسرائيل»» بالمضي في عدوان تمّوز ضد لبنان في ٢٠٠٦، فإنها عندما وصلت إلى اليوم الثالث والثلاثين قالت للعدوّ: لقد سمحنا لكم بثلاثة وثلاثين يوماً وعجزتم عن تحقيق النصر ضد حزب لبنان. لو استمررتم ثلاثين يوماً إضافيّة لن تحقّقوا النصر. ساعدت أميركا «إسرائيل» على تقبّل الحقيقة: أن «إسرائيل» أُذلَّت على أرض المعركة كما لم تُذلّ في تاريخها (وعبّرت القيادة الأميركية عن ضيقها من الفشل الإسرائيلي لأن القيادة العسكريّة الأميركيّة كانت تاريخيّاً تكنّ إعجاباً بالقدرات الحربيّة للجيش. انخفضت مرتبة «إسرائيل» في نظر المنظّرين العسكريّين هنا) وجد جيش «الأيام الستة» من يذلّه على مدى ثلاثة وثلاثين يوماً. وكما قال عامر محسن قبل أيّام، كانت رحلة الاجتياح الإسرائيلي» في زمن المقاومة الفلسطينيّة والحركة الوطنيّة لا تستغرق أكثر من ساعات.
الأمل يأتي من رافضي الرضوخ والانصياع: ها قد أعلن محمد بن سلمان هزيمته على يد جيش كان إعلامه يسخر من ملابس مجاهديه وسحناتهم
قرّر فريق بايدن إنهاء حرب اليمن، ووليّ العهد المعتد—كانَ—بنفسه في الإعلام يقرّر فجأة تقديم مبادرة سلام عن اليمن، والمبادرة تسمح بإدخال المواد الغذائيّة إلى ميناء الحديدة (هذه هي معايير النظام السعودي الذي يزعم أنه منع استيراد الخُضر والفواكه من لبنان فقط بسبب شحنة مخدّرات، فيما هو كان قد خفّض التبادل التجاري مع تركيا بنسبة ٩٨٪ فقط لأن الحكومة التركيّة فضحت محمد بن سلمان في تورّطه في قضيّة قتل وتقطيع جمال خاشقجي). والمبادرة السعوديّة ترافقت مع كلام جديد من محمد بن سلمان عن عروبة الحوثيّين (بقي له أن يفتي في عروبة اللبنانيّين من الذين يحاربون ««إسرائيل»»، لأن مفهوم العروبة السعودي-الإماراتي يحرم العروبة عن أعداء «إسرائيل» ويسبغها على التطبيعيّين وعلى نتنياهو. هذا يفسّر لماذا تحوّل كل أعوان وأزلام جيش الاحتلال «الإسرائيلي» في لبنان في سنوات الحرب إلى عروبيّين جدد). ومحمد بن سلمان قرّرَ أيضاً التواصل مع النظام الإيراني مباشرة بعد أن كان النظام السعودي يرفض ذلك. كل هذا يُعدّ أثماناً يدفعها محمد بن سلمان للرجل الذي سيقرّر مصيره. ولا شكّ في أن بايدن تراجع عن وعوده وعن تصويره المهين للنظام السعودي، لأن المؤسّسة الاستخباراتيّة-العسكريّة الحاكمة في واشنطن لا تريد إفساد العلاقة مع الحليف السعودي بل هي تريد استنزافه وابتزازه وتركيعه (أكثر). وهذا هو زمن الابتزاز الأميركي للنظام السعودي. لن تستشير إدارة بايدن أي نظام عربي في اتفاقها مع إيران، وهي تستشير «إسرائيل» لكن نفور بايدن من شخص نتنياهو كبير (نتنياهو جعل من «إسرائيل» في أميركا «ماركة» موصوفة بالحزب الجمهوري، وهو أكبر ضرر يلحق بروباغندا «إسرائيل» في أميركا منذ عام 1942 عندما قرّر بن غوريون نقل مركز الثقل الصهيوني من أوروبا إلى أميركا، وكان ذلك بمثابة الرهان على قوة صاعدة في غمرة حرب عالميّة طاحنة). وبايدن سيحبّذ المزيد من التقارب العلني بين محمد بن سلمان وبين حكومة العدوّ، ومحمد بن سلمان سينفّذ أوامر بايدن ويطيع، ولو طلب منه نقل الكعبة إلى تل أبيب. قد نشهد زيارة لمحمد بن سلمان لتل أبيب، إما قبل تولّي العرش، أو بعده مباشرة في صفقة قد يعقدها مع أميركا).
ختم الملفّ الإيراني
يبقى الملف النووي بين الحكومة الإيرانية وبين الحكومة الأميركيّة أولويّة الأولويّات في الشرق الأوسط في إدارة بايدن. هذه هو الموضوع الوحيد الذي يطغى في سياسة بايدن نحو الشرق الأوسط. لن يكون هناك اكتراث لمجريات الشرق الأوسط غير الاستمرار في الهيمنة والسيطرة والاستغلال وحماية الطغاة والفاسدين من أزلام أميركا في طول العالم العربي وعرضه. وأولويّة ختم الملفّ الإيراني تتعلّق بأولويّة سياسة بايدن الخارجية وهي الصين، والتحضير للمواجهة الكبرى. كل التخطيط الاستراتيجي الأميركي، القصير الأمد والبعيد الأمد، يتعلّق بالصين. عندما يحذّر ديفيد شينكر وغيره من مبادرات سلام ومساعدات ومعونات صينيّة يعطي فكرة عن حالة الذعر التي تصيب الحكومة الأميركيّة التي تتوجّس من كل استخدام للقوة الصينيّة الناعمة، لأنها تفهم أكثر عن استعمال العصا الغليظة. والمبادرات الصينيّة حول العالم تعطي صورة كاسرة عن الاختلاف بين الجبروت الأميركي وبين القوة الصينيّة الصاعدة. ولا نقلّل من دوافع الانهماك الأميركي بتسوية الملف النووي مع إيران: جزء من الدافع هو الحرص على «إسرائيل» من «إسرائيل»، كما أن أميركا تخشى من أن تورّطها «إسرائيل» في حرب تكون مدمّرة، وتكون أكثر كلفةً من حرب العراق. لكن الفريق التفاوضي الإيراني (وهو لا يزال يدين بالولاء لفريق روحاني-ظريف) لا يزال محكوماً بفهم مفرط في التفاؤلية عن منطلقات سياسات الغرب نحو إيران. والاتفاق سيعتمد على تلازميّة في التطبيق التدريجي بين الحكومتيْن لحفظ ماء وجه الطرفيْن. لكن الإدارة الأميركيّة، وبضغط من قادة الحزبيْن في الكونغرس، ستفرض فتح ملفّات المنطقة وهذه المرّة قد يجد النظام الإيراني ـــ وفي غياب قاسم سليماني ـــ صعوبة في الرفض القاطع لإدراج ملفّات السياسة الخارجيّة والصواريخ البالستيّة ودعم حركات مقاومة ضد ««إسرائيل»». لكن مهما كانت طبيعة الاتفاق، فإن الإصرار الأميركي عليه قوّض من نفوذ المحور السعودي في المنطقة، وخصوصاً في لبنان. كان الفريق السعودي في لبنان (وهو يضمّ فريقاً عريضاً ومتنوّعاً، يُراوح بين ١٤ آذار التقليدي و»سيدة الجبل» ومحطات الفساد الإماراتي-الأميركي الثلاث وفريق الثاو الثاو) يحلم بحرب أميركيّة مدمّرة تقضي على حزب الله وإيران في أسبوع واحد لو عاد ترامب إلى الحكم. إن المرارة التي انتابت هذا الفريق—خصوصاً في الرياض وأبو ظبي—لم تقلّ عن مرارة ترامب في خسارته المدويّة.
فلسطين: مصلحة «إسرائيل»
هنا تبرز قلّة الفروقات بين الحزبيْن. لم يعدّل بايدن في قرار نقل السفارة الأميركيّة من يافا المحتلّة إلى القدس المحتلّة، أو في قرار الاعتراف بشرعيّة احتلال الجولان من قبل «إسرائيل»(ربط وزير الخارجيّة، أنتوني بلينكن، الموقف الأميركي بحقبة حكم الأسد، أي أن موقف أميركا من احتلال غير شرعي يرتبط بمدى رضاها عن طبيعة الحكم في الدولة المحتلّة، إذا كانت خاضعة لأميركا أو لا). كما أن أميركا لم تعدّل من اعتراف أميركا بقوميّة اليهود فقط على أرض فلسطين، وهي قرّرت إعادة تمويل السلطة و»أنروا» فقط لأن ذلك يصبّ في خدمة ««إسرائيل»». صحيح أن بايدن يقبل بدولة فلسطينيّة على أرض مبتورة صغيرة من فلسطين، لكنه لن يضغط على العدوّ من أجل تحقيق ذلك، ولن يغيّر في حجم السخاء الأميركي لمصلحة دولة العدوّ. ونتنياهو كان أول حاكم في الشرق الأوسط حظي بمكالمة من بايدن، واستمرّت لأطول وقت بين كل المكالمات مع الزعماء العرب المطيعين.
أفغانستان: هزيمة استراتيجيّة
لم يهتم الإعلام العربي كثيراً بإعلان بايدن لسحبه للقوّات الأميركيّة من أفغانستان. طبعاً، إن إعلام الانسحاب لن يشمل القوّات (العلنيّة والسريّة) التي تبقى لغايات التدريب وأعمال القوّات الخاصّة السريّة—بالمناسبة، كيف يكون لبنان جمهوريّة ولاية الفقيه وحزب الله وهناك فيه وجود عسكري أميركي واستخباراتي هائل، وتستثمر أميركا فيه في بناء واحدة من أكبر قلاع السفارات الأميركيّة في المنطقة؟ أحياناً، تكن بروباغندا الفريق السعودي في لبنان، وفي خارجه، تحتاج إلى تعديل ودوزنة). أهميّة الانسحاب الأميركي من أفغانستان لا تقلّ عن أهميّة انسحاب الاتحاد السوفياتي من أفغانستان. لا يعني ذلك أن سقوط الإمبراطوريّة الأميركيّة سيلي، لكن يعني أن الإمبراطوريّة الأميركيّة تعرّضت لهزيمة استراتيجيّة كارثيّة بالنسبة إليها. هذه حرب امتدّت لعشرين سنة ونيّف. والحكومة الأميركيّة التي اجتاحت واحتلّت أفغانستان بحجّة قلع نظام «طالبان» لأنه قمعي ومعادٍ للمرأة، باتت اليوم تستجدي الـ»طالبان» للعودة إلى الحكم، وعلى جناح السرعة. تعلم أميركا أن خيطاً رفيعاً يحافظ على بقاء السلطة الموالية لها في أفغانستان. سيكون مصير أزلام الاحتلال الأميركي في أفغانستان مشابهاً لمصير نجيب الله في كابول (مع الفارق أن ليس لفريق أزلام أميركا في أفغانستان من جذور في المجتمع الأفغاني، فيما مثّل نجيب الله قاعدة يساريّة تقدميّة كان لها تاريخ ممحوّ في أفغانستان). هزيمة أميركا في أفغانستان أكبر من هزيمة أميركا في العراق (أو هزيمة أميركا في لبنان في عام ١٩٨٤، وهي ليست هيّنة). أميركا كانت تريد أن تعطي درساً في تكرار مجيد لتجربة الاتحاد السوفياتي في إخضاع أفغانستان. والفارق بين التجربتيْن هائل للغاية: الاتحاد السوفياتي واجه في أفغانستان جيشاً عالميّاً من الدينيّين المتزمّتين المتخلّفين (من شاكلة ابن لادن وأقرانه)، وكان هذا الجيش يحظى بدعم وتمويل وتسليح من كل دول الغرب والخليج العربي. الاتحاد السوفياتي واجه في أفغانستان حرباً عالميّة لإذلاله وإلحاق الهزيمة بالجيش الذي اقتحم برلين. أميركا هُزمت في أفغانستان من قبل جيش «طالبان» التي كانت تقول عنها إنها قروسطيّة متخلّفة. لم يكن هناك، كما في تجربة الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، جيش عالميّ يدعم حرب طالبان. على العكس من ذلك، كانت أميركا هي التي تحظى بدعم عالمي في حربها المدمّرة هناك: دول عربيّة شاركت في تلك الحرب إلى جانب أميركا، ولم تستطع كل تلك القوى ردّ هجمات طالبان (كانت الصحافة الغربيّة تحاول تلافي الإرباك الذي لحق بأميركا في حربها هناك عبر نشر أخبار ملفّقة عن دعم إيراني لطالبان تارة أو دعم سوفياتي لهم تارة أخرى، ولم تقدّم الصحافة أي دليل على ذلك، وهذا يدخل في نطاق بروباغندا المنهزم). ليس سهلاً على الإمبراطوريّة المُتجبّرة أن تقبل بأن مقاتلي الطالبان الذين كانت تصفهم بالمتخلّفين استطاعوا أن يحقّقوا نصراً على أكبر إمبراطوريّة في التاريخ. والانسحاب الأميركي أتى مشروطاً، لكن الشروط هي طالبانيّة وليست أميركيّة. الطالبان تفرض على أميركا نظام الحكم الذي تريد وترفض أن تقدّم ضمانات تريدها أميركا لحماية أزلامها. والصحافة الأميركيّة الليبراليّة، وهي أصدح وأشرس صوت في الدفاع عن إمبراطوريّة الحرب، لا تقبل بقرار الانسحاب لا بل تنشر المقالات الطوال عن حالة الذعر التي تسود في أوساط من تصفهم بـ»حلفاء الغرب»، أي أزلام أميركا الذين اقتاتوا من فتات الاحتلال. اعتراضات ليبراليّة تظهر في الإعلام عن وضع نسوة أفغانستان على طريقة النسويّة الاستعماريّة في بلاد المسلمين، والتي لا تجد «حلاً» لمشكلة النساء المسلمات إلا في الاستعمار الغربي، باسم تحريرهن.
ليست الإمبراطوريّة الأميركيّة في حالة أفول محتوم، لكنّ ضعفاً استراتيجيّاً يعتريها. هذا الذعر الذي تعبّر عنه أميركا من صعود الصين يشير إلى خلاصة دراسات استراتيجيّة غير معلنة في الوزارات المختصّة بالحرب والتوسّع هنا. أوّل زيارة خارج أميركا لوزير الخارجيّة الجديد كانت لليابان في رسالة لم تُسترْ جيداً في مقاصدها. يحاول بايدن إنقاذ الإمبراطوريّة كما حاول أوباما إنقاذها بعد عهد بوش. والتغيير بين إدارة بايدن وإدارة ترامب لا يعكس اختلافاً في عقليّة هيمنة استعماريّة عنصريّة. العقيدة المؤسّسة هي هي، بين حزبيْن. والشرق الأوسط ليس كما كان: ليس فقط بالنسبة إلى النفط ووفرته هنا في أميركا، بل لأن أنظمة العرب باتت خاضعة لأميركا بالكامل. بات الاستثمار الأميركي في الشرق الأوسط أقلّ، ومساعي أميركا لتحقيق الصلح بين العرب وبين «إسرائيل» ستقلّ لأن الطغاة العرب يتنافسون للتقرّب من «إسرائيل». لكن هناك بصيص أمل: هناك من يرفض الرضوخ والانصياع. ها قد أعلن محمد بن سلمان هزيمته على يد جيش كان إعلامه يسخر من ملابسهم وسحنتهم. أرض الرفض لا تزال خصبة في العالم العربي، بالرغم من الصعوبات وحروب الإخضاع.