إذاعات ال F.M في سورية : كيف كسرت حواجز المنع القديمة؟!
موجة إذاعات ال F.M على الراديو كانت ممنوعة في سورية، ويتذكر السوريون اليوم أن أجهزة الراديو التي تحتوي على هذه الموجة كانت تصادر عند بوابات الجمارك السورية والمعابر الحدودية، وتكافح بشدة، وكان السبب يتعلق بتداخل موجات ال F.M الإذاعية ، مع موجات اللاسلكي العادية التي كانت محصورة بالجهات الأمنية والعامة التي تخضع لسيطرة الدولة !
ومع الانفتاح الرسمي النسبي في الإعلام والصحافة وعلى وسائل الاتصال الجديدة، ودخول شبكات الخليوي والانترنت ببطء،إلى البلاد والذي يعود إلى أواخر التسعينات من القرن الماضي وأوائل الألفية الجديدة، اندفع البعض للحصول على تراخيص لإذاعات تجارية على هذه الموجة، وشرع السوريون يسمعون على الأثير مثل هذه الإذاعات، وكانت إذاعة ((صوت الشباب)) أول إذاعة رسمية تم نقل تجربتها التونسية بعد زيارة وفد إعلامي لتونس عام 2002، ثم ظهرت إذاعة المدينة عام 2005 ..
كانت هذه الخطوات مفتاحا مهما لانطلاق هذا النوع من الإذاعات، وقبل أن تنتشر على النحو الذي هي عليه الآن سعى المشرّع السوري إلى تنظيمها عبر وزارة الإعلام ، ثم عبر قانون الإعلام الجديد، ومن خلال المجلس الوطني السوري ..
يصف مدير إذاعة المدينة باسل محرز هوية إذاعات ال F.M الأولى بأنها هوية تجارية إعلانية بحتة، ولم يكن يفكر أصحابها إلاّ في مسألة الترويج ، ويوافقه على ذلك مدير إذاعة شام F.M ومالكها سامر يوسف، الذي أفصح عن الاستعانة بالخبرات اللبنانية في المرحلة الأولى من منح التراخيص .. لكن هذه الهوية الأولية في تاريخ نشوء الإذاعات الخاصة التي تبث على هذه الموجة، لم تعد مستقرة، بل اندفع أصحابها مع مرور الزمن إلى محاولة البحث عن هوية جديدة ، أقل ما يمكن القول عنها إنها بدأت تبحث عن ألوان غنائية أصيلة، فراحت تبث أغاني فيروز وغيرها من الأغنيات المفضلة عند الأجيال التي تحب هذه الإذاعات .
ينفي بعض أصحاب ال F.M أنهم يحملون مشروعا ثقافيا، ويعترفون صراحة أن ((البرامج التافهة تأتي بجمهور)) ، واستند مدير إذاعة المدينة باسل محرز إلى تجربته ، فبرنامجه ((المختار)) لا يلاقي إقبالا كالبرامج الصباحية التي تعتمد على الثرثرات، وقالت المذيعة المعروفة هيام حموي التي اشتهرت بتجربتها في إذاعة مونت كارلو إنها تعاني من الموضوع نفسه ، فبرامجها المهمة لاتلاقي إقبال الجيل الجديد، وأفصحت عن أنها استضافت في أحد برامجها الشاعر السوري المعروف عالميا ((أدونيس))، وأنه كان يتحدث لأول مرة بلغة مفهومة، ومع ذلك كان هناك عقبة أمام الوصول إلى شرائح أوسع ..
لم يأت أحد على ذكر البرامج الأخرى التي تستقطب الناس، ومن بينها برامج إذاعة ((نجوم F.M)) ومديرها أنس المدني، وخاصة برامج التواصل مع الناس حول التبرعات والمساعدات للمحتاجين إضافة إلى بعض البرامج الدينية وبرامج التداوي بالأعشاب التي تقدمها إذاعة القدس..
وهناك إذاعات F.M أخرى في سورية تبث الموسيقى والأغنيات كميلودي وفرح ونجوم والعربية.. وغيرها، وقدم الإعلام الإذاعي السوري تجربة ناجحة جديدة هي إذاعة ((سوريانا)) يديرها الآن الصحفي وضاح الخاطر، وحاكت هذه الإذاعة تجربة إذاعات ال F.M لكنها اشتغلت على هوية واضحة منذ السنة الأولى لانطلاقتها من خلال تجربة رائدة ومشجعة ..
ما الذي حصل لهذه الإذاعات خلال أزمة الحرب في سورية ؟ وهل صحيح أنها تمكنت من كسر الحواجز الأولى وذهبت بعيدا في منافسة الإعلام الرسمي وخاصة في موضوع الأخبار والأخبار العاجلة والتحليلات ؟!
في ندوة ((عين الفنون)) التي أقيمت بدمشق في آب 2016 جرى بحث موضوع الإذاعات الخاصة، وكان المشاركون في الندوة جادون في التعاطي مع المسألة، وكان بينهم إعلاميون وفنانون وكتاب ، ولم يقبل الحضور بدردشة حول الفكرة المطروحة بل تمكنوا من منهجة الحوار وتقديم أفكار ومعلومات مهمة حول الموضوع وصلت إلى الغوص في عمق الحرب والإعلام ومفهوم هذه الإذاعات ودورها، وشرح مواطن حلبي كان موجودا في الندوة معاناة حلب من نقص هذا النوع من الإذاعات وقال حرفيا : لايوجد إلا إذاعات داعش!
هذا يعني أن التجربة كانت أنضج في دمشق، وإن تمكنت من تحقيق بعض التقدم في محافظات أخرى، لكن أصحابها بحاجة إلى دعم، فبعد أن كان هدفهم تجاريا بحتا وصلوا إلى درجة يحتاجون فيها إلى دعم الدولة، وتخفيف الضرائب عنهم ، وقد دعتهم رئيسة جمعية عين الفنون الكاتبة إلى رفع مطالب جماعية واضحة!
لم تترك الحرب أثرا سلبيا إلا من هذه الناحية، فقد أسست إذاعات ال F.M لخبرات إعلامية مهمة، من بينها أن أصحابها ومديريها كسروا الهوية الأولى ((التجارية البحتة)) ، وتمكنوا من الدخول إلى عالم الأخبار والسياسة والتحليل، وكانت إذاعة صوت الشباب قد كسرت هذا الحاجز عام 2004 عندما أطلقت أول تجربة إخبارية بعنوان ((الحقيبة الإخبارية))(1) ، وهذا لم يحصل في الإذاعات الأخرى إلا في الحرب السورية بعد عام 2011 وفي بعض الإذاعات تم إفساح المجال أمام الهامش الديني المتنور، فدخلت عليه بعض التجاوزات التي أثارت لغطا فانتقدت أحاديث الشعوذة والسحر والرقى فيها ..
اتسعت مساحة الاستماع إلى هذه المحطات، وازدادت الثقة في المعلومات التي تنشرها وخاصة على صعيد الخبر العاجل المحلي الذي يتّبع الاعلام الرسمي سياسة السلحفاة في نقله، وأخذ هذا أهمية خاصة مع تصاعد التفجيرات والعبوات وسقوط قذائف الهاون على الرؤوس، وسرعة نقل التفاصيل في إذاعات الإف إم مما يطمئن الناس..
وفي مرحلة مهمة من الحوار السياسي الداخلي كانت بعض الإذاعات منبرا لشخصيات معارضة مهمة كالدكتور قدري جميل من الجبهة الشعبية للتغيير وعلي حيدر من الحزب السوري القومي الاجتماعي وفاتح جاموس من تيار التغيير الديمقراطي وعلي فياض من التيار العلماني.
ــــــــــــــــــــــــ
(1) أول من أطلق تجربة الحقيبة الإخبارية في إذاعة F.M صوت الشباب عام 2004 هو كاتب هذه السطور عماد نداف، وكانت الإذاعة بإدارة المذيعة شادن حمدان.