إردوغان بين بايدن وبوتين.. أين المفر؟
بين قمّتَي جدة وطهران أربعة أيام ستضع الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، أمام خيارات صعبة ومعقَّدة، مع استمرار ضربات المطرقة الأميركية ومحاولات إردوغان التصدي لها، عبر السندان الروسي، حتى لو لم يكن متشجعاً على ذلك، قلباً وقالباً.
ويفسّر ذلك استمرار إردوغان في سياساته الداعمة لأوكرانيا في حربها ضد روسيا، كما يفسّر تحديه موسكو في سوريا، التي يعرف إردوغان أنها كانت وستبقى الساحة الرئيسة في المواجهة المحتملة بين كل الأطراف الإقليمية والدولية.
ودفعه ذلك إلى الاستعجال في المصالحة مع أعدائه السابقين، وهم حكّام الإمارات والسعودية و”إسرائيل” ومصر، لأنهم جميعاً متفقون معه في العداء للرئيس الأسد المدعوم من روسيا وإيران. كما دفعه ذلك أيضاً إلى المصالحة مع الرئيس الأميركي، جو بايدن، عبر الموافقة على انضمام السويد وفنلندا إلى حلف الناتو، الذي يمتلك في تركيا نحو أربعين قاعدة ومحطة رادارات وتجسس تستهدف سوريا وإيران وروسيا.
هذه كلها تكتيكات غير كافية لضمان الدعم الأميركي لإردوغان شخصياً، وبالتالي لدعوته إلى قمة جدة، وهو ما سعى من أجله عبر استقباله الحافل لمحمد بن سلمان في أنقرة بتاريخ 22 حزيران/يونيو الماضي، وقبل أسبوع من قمة الأطلسي في مدريد، ولقائه الرئيس بايدن على هامشها، في وقت يستمرّ الحديث عن فتور يخيّم على علاقات بايدن بإردوغان بعد أن سبق للأول أن تحدث عن ضرورة التخلص من الثاني في الانتخابات المقبلة، ووصفه بالاستبدادي والديكتاتور.
وتشير المعلومات إلى فشل الرئيس إردوغان في كسب ودّ وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، الذي يبدو أنه يكنّ عداءً شخصياً لإردوغان، ويحمّله مسؤولية اتهامه بجريمة اغتيال جمال خاشقجي، وتسليم كلّ الأدلة الخاصة بذلك إلى الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، مع التذكير بالعداء التاريخي بين آل سعود وكل من الدولة العثمانية والجمهورية التركية العلمانية، التي جاءت بعدها.
ويفسّر كل ذلك إصرار ابن سلمان على ضرورة تسليمه ملف جريمة خاشقجي بأكمله، كشرطٍ أساسيّ للمصالحة مع إردوغان، الذي أرسل الملف إلى جدة، كما جمّد الأخير نشاط الإخوان المسلمين المصريين في تركيا، كأحد شروط المصالحة مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وحاكم الإمارات محمد بن زايد، بل حتى مع “تل أبيب”، التي نجحت بدورها في تجميد علاقة أنقرة بـ”حماس”. وهو ما سيفعله قريباً أمير قطر تميم، بعد أن زار القاهرة في 24 حزيران/يونيو الماضي، والتقى السيسي وأقنعه بضرورة العمل المشترك ضد دمشق، وهو الهدف المشترك لقمّة جدة، على نحو مباشر أو غير مباشر، من خلال مزيد من التطبيع مع “دولة إسرائيل اليهودية”، وشرطها الوحيد هو العمل المشترك ضد إيران، حليفة الأسد الرئيسة.
ويجد إردوغان نفسه، مرة أخرى، بين المطرقة الأميركية، التي تمسك بها أيضاً “تل أبيب” والأنظمة العربية، والسندان الروسي والإيراني، والذي من دونه سيفقد إردوغان جميع أوراق المساومة، إقليمياً ودولياً، وهو ما سيعني تخليه عن كلّ حساباته التي وضعها منذ ما يسمى “الربيع العربي”، عندما قيل له “إن الظروف ستسمح له بأن يكون سلطاناً وخليفة للمسلمين”، فأدّى الدور الذي أدّاه طوال الأعوام الماضية، وجعل تركيا عنصراً رئيساً في مجمل المعادلات الإقليمية، تارة بضوء أخضر روسي، وأخرى بدعمٍ أميركي، مباشر أو غير مباشر.
ويفسّر ذلك سكوت واشنطن عن عدم التزام أنقرة العقوبات المفروضة على روسيا وإيران، على الرغم من ضجتها بشأن موضوع صواريخ “أس – 400″، وكان ذلك في مقابل الوجود التركي في سوريا لإزعاج روسيا وإيران، اللتين تستعدّان معاً لمباحثات صعبة مع الرئيس إردوغان في قمة طهران، الثلاثاء المقبل.
ويعرف الجميع أن سوريا ستكون الموضوع الرئيس، إن لم يكن الوحيد، في جدول أعمالها، مع استمرار الرفض التركي أيَّ حل هناك، على الرغم من حديث أنقرة المتكرر عن خطر الكيان الكردي، المدعوم أميركياً وخليجياً وإسرائيلياً، شرقي الفرات، ومع استمرار الدعم التركي لكل الفصائل والمجموعات والقوى الإسلامية الإخوانية في سوريا وليبيا، جارة مصر، وعلى الرغم من وعود إردوغان للسيسي وابن سلمان وابن زايد و”تل أبيب” بقطع علاقاته بجماعة الإخوان و”حماس” ومن يدور في فلكهما، عقائدياً وسياسياً.
ومع انتظار النتائج الملموسة والعملية لقمة جدة، وخصوصاً فيما يتعلق بالحلف الإقليمي ضد إيران، وتلبية دول الخليج مطالبَ بايدن الغازية والنفطية، وهو ما سيراقبه إردوغان عن كثب، يراهن آخرون على نتائج قمة طهران، التي سيسعى خلالها بوتين ورئيسي لإقناع إردوغان بضرورة المصالحة مع الرئيس بشار الأسد “ما دامت المخاطر التي تهدّد الطرفين مشتركة”، والمقصود في ذلك الميليشيات الكردية، المدعومة أميركياً وأوروبياً، شرقيّ الفرات، في الوقت الذي يبدو واضحاً أن إردوغان لا ولن يفكر في مثل هذه المصالحة، نتيجة حسابات معقّدة، ما دام مستفيداً من وجوده في سوريا (كما هي الحال في ليبيا)، وهي ورقته الأهم في مجمل المساومات مع طرفي الكماشة، أي الأميركي والروسي، ويسعى لمواجهتها معاً من خلال عشرات الآلاف من المسلحين والموالين، والآلاف منهم من الشيشان والإيغور؛ سلاح إردوغان الأخطر في التصدي، ليس فقط للضغوط الخارجية، بل أيضاً لمواجهة السيناريوهات المحتملة، قبل الانتخابات المقبلة وخلالها وبعدها.
ويفسّر ذلك المخاوف التي عبّر عنها زعيم المعارضة، كمال كليجدار أوغلو، وعدد من الدبلوماسيين والجنرالات المتقاعدين، فيما يتعلق باحتمالات استخدام المسلحين من جانب بعض الأطراف، ضد المعارضة والمعارضين.
في جميع الحالات، وأياً تكن حسابات إردوغان فيما يتعلق بالدور التركي المحتمل في المنطقة، فإنّ الجميع يعرف أن أوراقه لم تعد قوية بعد أن رضخ للمطالب والشروط السعودية والإماراتية والمصرية والإسرائيلية، والتي أفقدته عناصر المناورة، وكان خسرها مسبّقاً بسبب الأزمة المالية الخطيرة، وسببها سياساته، داخلياً وخارجياً.
وأثبتت كل الاستطلاعات أن هذه السياسات لم تعد تحظى بتأييد الشارع التركي، الذي يحاول إردوغان أن يُبقيه إلى جانبه، تارةً بمقولاته الدينية، وأخرى القومية، والتي تتناقض مع تصرفاته، وفق كلام المعارضة، التي تتهمه بالاستسلام للدول التي لطالما اتهمها بالتآمر عليه وعلى الأمة والدولة التركيتين، وحمّلها مسؤولية الأزمة المالية وتراجع قيمة الليرة في مقابل الدولار. ومن دون الدولار لن يستطيع إردوغان أن يستمرّ في السلطة، وهو يعرف أن الرضا الأميركي شرط أساسيّ من أجلها، اللهمّ إلّا إذا كان لدى إردوغان مفاجآت أخرى، قد نرى بوادرها خلال قمة طهران وبعدها!