إردوغان.. بين شعارات “الأمَّة” ومقولات “المِلَّة”

 

 خلال حديثه الأسبوعي إلى أعضاء الكتلة البرلمانية لحزب العدالة والتنمية، كان الرئيس التركي رجب طيب إردوغان واضحاً عندما برَّر اهتمامه بليبيا وقال “إنها قد تكون بعيدة عن تركيا جغرافياً إلّا أنّها تربطها بتركيا روابِط تاريخية واجتماعية عريقة“.

رفض إردوغان الاتهامات الموجَّهة إلى تركيا في ما يتعلَّق بأطماعها الامبريالية والتوسّعية في ليبيا والمنطقة، وقال “إن الدفاع عن أحفاد أجدادنا في ليبيا وأيّ مكانٍ آخر من الشمال الأفريقي من أهم مسؤولياتنا التاريخية”. وأضاف “كما هي الحال بالنسبة إلى تركمان سوريا والعراق والأتراك في البلقان وأشقائنا في شبه جزيرة القرم وأخوتنا في القوقاز، فإننا مُهتمّون بأتراك ليبيا وهم أحفاد بربروس وتورغوت (قادة الأسطول الحربي العثماني الذي فتح ليبيا والشمال الأفريقي)“.

وتابع إردوغان “نحن نُدرِك مسؤولياتنا التاريخية تجاه جميع أشقائنا في ليبيا من العرب والبربر والأمازيغ والطوارق والأتراك، فقد وقفوا إلى جانبنا في وقت الضيق في الماضي، وعلينا الآن أن نقف إلى جانبهم وهو ما فعلناه فاستعجلنا في الدفاع عنهم، ولأن حفتر يسعى إلى القضاء عليهم في إطار سياسات التطهير العِرقي التي تستهدف حوالى مليون من الأصول  التركية العثمانية، تركيا لن تسمح له بذلك وستلقِّنه الدرس اللازِم”.

بعد كلام إردوغان هذا تحدَّث المؤرِّخون عن أتراك ليبيا وقالوا عنهم “إنهم من بقايا الحُكم العثماني لليبيا الذي بدأ عام 1552 حيث تزوَّج عساكر الجيش الإنكشاري والبعض منهم من اليهود والجركس والروم الذين أسلموا، فذهبوا إلى ليبيا وتزوَّجوا من الليبيات وبقوا هناك”. وأضاف المؤرِّخون “إنّ معظم هؤلاء يعيشون في المنطقة الممتدَّة بين سرت ومصراته وهي من أهم معاقِل القوات الموالية لحكومة الوفاق التي يترأسها فايز السرّاج”.

وكانت تركيا قد استضافت منذ عام 2013 العديد من زعماء القبائل الليبية ذات الأصل التركي، وأقامت علاقات واسعة معهم وقدَّمت لهم كافة أنواع الدعم المالي، حيث كشف الإعلام التركي عام 2014 عن نقل 300 مليون دولار بالحقائب الدبلوماسية إلى هذه العشائر.

واكتسب كلام إردوغان هذا أهمية إضافية لأنه يُصادِف أيضاً حديثه المُتكرِّر “عن حماية إدلب من هَجَمات النظام الظالِم”، حيث يتحدَّث المسؤولون الأتراك منذ بداية الأزمة السورية “عن مسؤولية أنقرة التاريخية والتزامها الدفاع عن تركمان سوريا وعددهم 3 ملايين يعيشون في جميع أنحاء سوريا”. وأنشأت أنقرة من أجلهم ما يُسمَّى بالمجلس التركماني السوري الذي يضمّ العشائر والمجموعات المدنية والفصائل المُسلَّحة، ومنها كتيبة “السُلطان مراد” وكتيبة “السُلطان عبدالحميد” وكتيبة “الزنكي” وغيره.

بموازاة ذلك لا تهمل أنقرة علاقاتها مع السنَّة من تركمان العراق والنصف الآخر منهم من الشيعة المُقرَّبين من إيران. ويتحدَّث الإعلام الموالي لإردوغان عن اهتمامات أنقرة الواسعة بكل مَن هم من أصولٍ تركيةٍ أو تركمانية في جميع أنحاء العالم، وعلى سبيل المِثال لبنان ومصر والأردن واليمن وفلسطين والبلقان والقوقاز وآسيا الوسطى وجمهوريات الحُكم الذاتي داخل حدود روسيا الفدرالية، وإيران التي فيها حوالى 20 مليون من الأذريين وهم من أصلٍ تركي.

وأثار اهتمام إردوغان ببقايا الحُكم العثماني في ليبيا ومن قبله سوريا نقاشاً واسعاً في الأوساط السياسية والإعلامية، لأنه صادف النقاش المُحتَدِم حول مساعيه لأسْلَمَة الدولة والأمَّة التركيتين، حيث تحدَّث مُستشاروه عن ضرورة تغيير الدستور وإقامة نظام جديد على أساس الشريعة الإسلامية، وهو ما صادف زيارة إردوغان إلى منزل أحد زعماء الطُرُق الدينية المُهمّة الأحد الماضي واتصالاته مع زعماء آخرين في نفس الإطار.

وتشهد تركيا منذ أيام نقاشاً واسعاً حول مضمون وأهداف السياسة التي ينتهجها إردوغان على الصعيد الخارجي، حيث يتبنَّى تارة الدفاع عن الإسلاميين في العالم ثم يعود ويتحدَّث عن اهتمامه ببقايا العثمانيين والأتراك ومسؤولية بلاده للدفاع عنهم أينما وجدوا. وهو ما تحدَّث عنه الرئيس الراحِل تورغوت أوزال بعد سقوط الاتحاد السوفياتي تحت شعار “وحدة المِلّة التركية من البحر الأدرياتيكي في البوسنة إلى سد الصين المنيع”، فأقام تكتلاً جديداً باسم اتحاد الدول ذات الأصل التركي ويضمّ كلاً من كازاخستان وأوزبكستان وأذربيجان وقرغيزيا وتركمنستان، إلى جانب تركيا وجمهورية شمال قبرص التركية وعلى أساس الفكر التركي- الإسلامي.

هذا ما يُفسِّر حديث إردوغان، تارةً من مُنطلَق “الأمَّة” ويقصد بها باللغة التركية الأمَّة الإسلامية، ثم يعود ويتذكَّر أبناء جِلدته من الأتراك ويعتبرهم جزءاً من “المِلَّة التركية” بالمفهوم القومي العِرقي.

ومهما كان قصد إردوغان لكلا المفهومين، “الأمَّة” و”المِلَّة”، فمن الواضح أن أنقرة ترى في المفهومين من أهم مُبرِّراتها للاهتمام أو التدخّل في “مستعمرات” الدولة العثمانية السابقة، وأهمها سوريا التي دخل منها السُلطان سليم المنطقة العربية في 24  آب/أغسطس 1516 وخرج منها مصطفى كمال في أيلول/سبتمبر عام 1918 كقائد الفرقة السابعة في الجيش العثماني، وعاد ودخلها الجيش التركي في 24 آب/أغسطس 2016، أي بعد 500 عام من معركة مرج دابق، وهذه المرة بموافقةٍ روسية جاءت في إطار صفقة شاملة لمُعالجة الأزمة السورية.

وأثبتت السنوات الماضية أن تعقيداتها تزداد يوماً بعد يوم بسبب حسابات إردوغان الخاصة بـ “المِلَّة التركية” التي يسعى إلى البقاء من أجلها في الشمال السوري والآن من أجلها يهتم بليبيا، وتارة أخرى من أجل “الأمَّة الإسلامية” طالما أنه وريث الدولة العثمانية التي حكمت العديد من أطراف هذه “الأمَّة” لمئات السنين.

فقد تحدَّثت أوساط مُقرَّبة من الرئيس إردوغان عن مشاريع وخطط عديدة سرّية وعلنيّة لجَمعِ شَمل المسلمين في جميع أنحاء العالم تحت رايةٍ واحدةٍ وهي راية الإخوان التي يعتقد إردوغان أنّه زعيمها السياسي والروحاني، وهو ما يُفسِّر تلاوته لآياتٍ من الذِكر الحكيم في مناسباتٍ مختلفة.

فقد استضافت مختلف مؤسَّسات وأجهزة الدولة التركية خلال السنوات القليلة الماضية ومازالت، المئات من الفعَّاليات المختلفة بعناوين إسلامية دُعيِ إليها الآلاف من مختلف الأطراف والفئات والمجموعات الإسلامية من جميع أنحاء العالم، ليعودوا إلى أوطانهم حاملين معهم أفكار الرئيس إردوغان، فيما طرحت أوساط أخرى مُقرَّبة من إردوغان فكرة تشكيل تكتل إسلامي جديد يضمّ الدول الإسلامية في آسيا وأفريقيا، على أن تكون اسطنبول عاصمة هذا التكتل ولغته الرسمية هي اللغة العربية.

وتريد الأوساط لهذا التكتل أن يُنافِس منظمة التعاون الإسلامي ومقرّها السعودية التي تُعادي الرئيس إردوغان. والأخير سبق له أن اتّهم المنظمة بعدم تحمّل مسؤلياتها تجاه التحديات التي تواجه العالم الإسلامي، حالها حال الجامعة العربية التي لعبت دوراً أساسياً في تمزيق وحدة الصف العربي خاصة بعد ما يُسمَّى بالربيع العربي.

وكان الرئيس إردوغان ومُستشاره السابق أحمد داوود أوغلو يعتقدان بأن هذا الربيع سيساعدهما على تحقيق أحلامهما في رفع راية “الأمَّة” و”المِلَّة” طالما أن الغرب ينظر إلى تجربة “العدالة والتنمية” في دولةٍ إسلاميةٍ علمانيةٍ ديمقراطيةٍ، أي تركيا، باعتبارها نموذجاً مثالياً يمكن تسويقه للأحزاب والقوى الإسلامية في الجغرافيا العربية، التي وصلت إلى ما وصلت إليه بفضل هذا الربيع بكل لاعبيه المعروفين وغير المعروفين، وأثبتت السنوات التسع الماضية أنهم كانوا جميعاً بعِلم أو من دونه تلامذة تل أبيب، المُستفيد الأكبر من هذه السنوات التسع، وأيامها الأخيرة التي حملت خبر اغتيال القائدين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، ولا هدية أكبر منهما لـ”إسرائيل”.

الميادين نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى