إردوغان تركيا.. ضد فرنسا وألمانيا زائد أميركا
خلافاً للسنوات الأربع الماضية، اتخذت واشنطن للمرة الأولى، على لسان وزير الخارجية مايك بومبيو، موقفاً عدائياً واضحاً ضد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، الذي كان طيلة الفترة الماضية تحت “حماية” الرئيس ترامب.
فبعد ساعات من لقائه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الإثنين الماضي في باريس، تحدَّث بومبيو إلى صحيفة “لو فيغارو”، وقال: “أميركا وفرنسا متفقتان على أن سياسات الرئيس إردوغان باتت عدوانية في ليبيا وسوريا والبحر الأبيض المتوسط وأرمينيا، وما على أميركا وأوروبا إلا أن تعملا معاً لإقناع إردوغان بأنَّ هذه السياسات ليست لصالح شعبه“.
خلافاً للإعلام الموالي لإردوغان الذي شن هجوماً عنيفاً على بومبيو، لم يرد أحد من المسؤولين الأتراك على أقواله، بعد أن رفض الذهاب إلى أنقرة للقاء إردوغان والوزير مولود جاويش أوغلو واقتصرت زيارته على إسطنبول. وقد زار البطريركية الأرثوذوكسية، تعبيراً عن اعتراض بلاده على تحويل كنسية آيا صوفيا إلى جامع، وهي خطوة حاول من خلالها إردوغان استفزاز العواصم الغربية ودغدغة المشاعر القومية لدى الأتراك، والمشاعر الإسلامية لدى أتباعه والمتعاطفين معه من المسلمين في العالم.
هذا القرار وغيره من التصريحات والمواقف العملية للرئيس إردوغان في سوريا وليبيا والعراق والبحرين الأبيض المتوسط وإيجة، إضافة إلى سياساته الداخلية المعادية لأبسط معايير حقوق الإنسان والديموقراطية، كانت كلها كافية لإدخال العلاقات التركية مع أوروبا في نفق مظلم، لولا المصالح الاقتصادية الأوروبية، فقد وصل عدد الشركات الأوروبية العاملة في تركيا إلى 12 ألف شركة، وزاد حجم استثماراتها في جميع القطاعات والمجالات على تريليون دولار.
ورغم ذلك، كادت العواصم الأوروبية تتخذ العديد من القرارات العملية ضد أنقرة، لولا الرئيس ترامب “الصديق والعدو” للرئيس إردوغان، والذي أرسل إليه رسائل فيها الكثير من الإهانات الشخصية، بعد أن هدده وتوعده بتغريداته على “تويتر”، وقال له: “سأدمرك وأدمر اقتصاد بلادك إذا لم تخلِ سبيل القس برونسون أو إذا كنت تفكر في الاعتداء على حلفائنا كرد سوريا”. لجأ إردوغان حينها إلى إخراج القس برونسون من السجن فوراً وأغلق ملف الكرد، في محاولة منه لموازنة الضغوط الأوروبية عليه بالدعم الأميركي له، وخصوصاً بعد أن ازدادت هذه الضغوط في ظل أزمته مع اليونان وقبرص، العضوين في الاتحاد الأوروبي، واتخذت طابعاً مثيراً بعد اتهام ماكرون المخابرات والأجهزة التركية المختلفة بتحريض الأتراك والمسلمين المتواجدين في الدول الأوروبية. واتفقت ألمانيا وهولندا والنمسا وبلجيكا ودول أخرى مع الرئيس ماكرون في رأيه هذا، بعد أن اقتنع الجميع بأن كل ما قام ويقوم به إردوغان هو نتاج مخططاته لإحياء أمجاد الخلافة والسلطنة العثمانية، وذكرياتها سيئة جداً في أوروبا.
اعتبر البعض أقوال الوزير بومبيو ضد تركيا وإردوغان مؤشراً مهماً على ملامح المرحلة القادمة في عهد الرئيس بايدن، المعروف عنه مواقفه السابقة ضد إردوغان شخصياً في ما يتعلق بمجمل القضايا التي ترى فيها العواصم الأوروبية مصدر قلق وانزعاج بالنسبة إليها، فقد قال مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، (الخميس) إن تصريحات إردوغان في ما يتعلق بقبرص توتّر العلاقة مع الاتحاد، و”على أنقرة أن تدرك جيداً أن سلوكها يوسّع الهوة بينها وبين الاتحاد، كما عليها أن تعي أن الوقت ينفد، وأن الاتحاد يقترب من اتخاذ قرارات حاسمة في موضوع تركيا”.
أما وزير الخارجية الألماني هايكو ماس، فقد هدد “باتخاذ مواقف أكثر تشدداً ضد تركيا إذا استمرت في استفزازاتها، كما هو الحال في قبرص، وإذا لم تصدر عنها إشارات إيجابية خلال الأيام القليلة القادمة”.
ويرى الكثيرون في هذه التصريحات مؤشراً مهماً على المواقف والقرارات الصارمة التي سيتخذها الزعماء الأوروبيون ضد إردوغان في القمة الأوروبية في 10 و11 من الشهر القادم، بعد أن تبين للجميع أن سياسات إردوغان لم تعد تحظى برضى واشنطن، التي استغلت هذه السياسات لتحقيق الكثير من المكاسب في سياساتها الإقليمية في سوريا والعراق وليبيا بشكل خاص، وكانت “إسرائيل” المستفيد الوحيد منها.
ولم يعنِ ذلك أن أوروبا بمؤسساتها المختلفة ستترك تركيا لقمة سائغة للروس، بل إنها ستثبت لإردوغان أن للغرب مؤسساته وقيمه التي عليه أن يحترمها ويلتزم بها، إن كان جاداً في تحقيق هدف الجمهورية التركية في تحقيق التكامل الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي مع المنظومة الأوروبية، أي الاتحاد الأوروبي. ويعرف الجميع أن إردوغان لن يستسلم بسهولة للضغوط الأوروبية، وسيدفعه ذلك إلى تجاهل هذه الضغوط والتهديدات والعودة إلى تكتيكاته التقليدية لكسب ود الرئيس بايدن، ناسياً أو متناسياً كل الفتور والتوتر السابق معه.
يعرف إردوغان جيداً أنه لن يتسنى له حل مشاكله الاقتصادية والمالية من دون أميركا، ولن يكون سهلاً عليه الاستمرار في السلطة بهذه القوة داخلياً وخارجياً، كما يعرف جيداً أنه لن يتحمل ضربات المطرقة الروسية من دون السندان الأميركيّ، بعد أن لوح الاتحاد الأوروبي أيضاً بمطرقته مؤخراً.
وفي هذه الحالة، ما عليه إلا أن يقنع واشنطن والعواصم الأوروبية بأنه سيلبي مطالبها، ولو بالحد الأدنى، لأن ذلك سيتناقض مع سلوكه الشخصي وخياراته السياسية الداخلية مع استمرار الأزمة المالية الخطيرة، وسببها أساساً سياسات التوتر في الداخل والخارج، فليس سهلاً على إردوغان أن يتخلى عن نهجه العقائدي الذي يهدف إلى أسلمة الدولة والأمة التركية، كما يهدف إلى ضمان بيعة الإسلاميين في العالم له، وهو الموضوع الرئيسي الذي كان، وما زال، وسيبقى بتبعاته ونتائجه السبب الوحيد ربما الذي سيعرقل عودة الأمور إلى طبيعتها في العلاقة بين إردوغان والغرب عموماً، بعد أن يعود الرئيس بايدن بأميركا إلى هذا التكتل بمضامينه السابقة قبل ترامب.
ويبقى هناك سؤال أهم: هل سيرضى إردوغان لنفسه بأن يتراجع عن مجمل سياسته الأخيرة، بعد التعديل الدستوري في نيسان/أبريل 2017، وبعد عام من محاولة الانقلاب الفاشل الذي قيل إن أتباع فتح الله غولان، وهو حليف إردوغان السابق، قاموا به؟
لقد استغل إردوغان هذا الانقلاب، فسيطر على جميع مؤسسات الدولة ومرافقها، وأهمها الجيش “العلماني” والمخابرات والأمن والقضاء، و95% من الإعلام الحكومي والخاص. وقد ساعد كل ذلك إردوغان للتخلّص من جميع معارضيه، وخصوصاً في الإعلام، فوضع المئات من الصحافيين والمثقفين والأكاديميين في السجون، ولاحق الآخرين أمنياً وقضائياً، فأصبح الحاكم المطلق للبلاد من دون منافس أو منازع.
وكان كل ذلك أمام أنظار حلفائه الغربيين في “الربيع العربي” حتى حزيران/يونيو 2016، إذ كسب “ود” الرئيس بوتين بعد أن اعتذر منه لإسقاط الطائرة الروسية في 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2015. وقد ساعده هذا “الود” في كسب مواقع جديدة تعوّضه خساراته في العلاقة مع أوروبا، فأصبح صاحب القول الأهم في سوريا والعراق وليبيا والصومال والبلقان، وأخيراً في أذربيجان.
والآن، يراهن الكثيرون على مدى استعداد إردوغان للتخلي عن مكاسبه هذه، ولقاء أي مقابل، فإما أن يقول لحلفائه السابقين: “وداعاً أيها الاتحاد الأوروبي الصليبي وإلى الأبد”، وإما أن يعتذر من هذا الاتحاد، كما اعتذر من بوتين، حتى يتسنى له ضمان مكاسبه وتحقيق مكاسب جديدة في أماكن أخرى.
وإذا نجح إردوغان في ذلك أيضاً، فسوف يثبت لأعدائه وأصدقائه أنّ الجميع بحاجة إليه، وأن الغرب برمّته لن يكون سهلاً عليه أن يتجاهل الأهمية الاستراتيجية لتركيا، وما عليه إلا أن يضع بعين الاعتبار دائماً ما سيقوله السلطان العثماني “الجديد”، كما كان أجداد هذا الاتحاد يفعلون عندما كانت الإمبراطورية العثمانية في العام 1700 تمتد على مساحة 20 مليون كم مربع، ليقال عنها بعد 200 عام إنها رجل أوروبا المريض، وتبقّى لها في نهاية الأمر 783 ألف كم مربع، ويريد إردوغان لها أن تعود إلى ما كانت عليه قبل 320 عاماً، ولو معنوياً!
الميادين نت