إردوغان والشّمال السّوري.. ماذا عن الشّمال العراقي؟
أثارت تصريحات أكار نقاشاً بين الحكومة والمعارضة، بعد أن كشفت مواقع العمال الكردستاني عن هويات القتلى الأتراك، وتبيّن أنهم من ضباط الصفّ في المخابرات والجيش التركيين.
بعيداً من اهتمامات الإعلام العربي والدولي، تستمر القوات التركية في عملياتها البرية والجوية في الشمال العراقي، بهدف القضاء على مخيمات حزب العمال الكردستاني التركي ومراكزه في المنطقة. وجاءت العملية الأخيرة في منطقة كارا لتثير نقاشاً واسعاً في السّاحة الداخلية، بعد تصريحات وزير الدفاع خلوصي أكار، الذي قال “إن مسلّحي الكردستاني قتلوا 13 فرداً من المدنيين الذين اختطفوهم سابقاً”، كما لقي 3 ضباط أتراك مصرعهم في هذه العمليات التي كانت تهدف إلى تحقيق انتصار كبير ومفاجئ في المنطقة.
وأثارت تصريحات الوزير أكار نقاشاً واسعاً بين الحكومة والمعارضة، بعد أن كشفت مواقع حزب العمال الكردستاني عن هويات القتلى الأتراك، وتبيّن أنهم من ضباط الصفّ في المخابرات والجيش التركيين، وقد سبق أن اختطفهم مسلّحو الحزب، فيما حمّلت عضو البرلمان عن حزب الشعوب الديمقراطي، هدى كايا، أنقرة مسؤولية مقتل الأسرى، وقالت: “الجيش قصف بالطائرات المكان الذي كان الأسرى يتواجدون فيه. سعينا كثيراً إلى إعادتهم إلى أهاليهم، ولكن الحكومة لم تقبل بذلك”. وكان إعلان الحزب وكلام كايا كافياً لشن حملة رسمية عنيفة على حزب “الشعوب الديمقراطي”، وهو ثالث حزب في البرلمان، بحجّة أنه الجناح السياسي للعمال الكردستاني.
ويتعرض حزب “الشعب” الجمهوري والحزب “الجيد” أيضاً لهجوم عنيف من أقطاب السلطة والإعلام الموالي لها، بتهمة الإرهاب والخيانة الوطنية، لأنهما تحالفا مع الحزب المذكور في الانتخابات البلدية، وهما مستمران في ذلك لإلحاق الهزيمة بالرئيس إردوغان في الانتخابات القادمة، بعد أن وصلت شعبية ذلك الحزب إلى 12%.
وتتوقّع الأوساط السياسية للمعطيات أعلاه أن تدفع الرئيس إردوغان وحليفه دولت باخشالي، زعيم حزب “الحركة القومية” العنصري، إلى أن يطلقا حملة جديدة ضد “الشعوب الديمقراطي”، بهدف حظر نشاطه من قبل المحكمة الدستورية ووضع معظم قياداته في السجن، كما هو الحال بالنسبة إلى الرئيسين المشتركين السابقين للحزب، وتسعة من أعضاء البرلمان، و50 من رؤساء البلديات، وحوالى 5 آلاف من كوادر الحزب وأعضائه وأنصاره الموجودين في السجون منذ حوالى 5 سنوات.
وترى أوساط المعارضة في مثل هذا الاحتمال حجّة إردوغان لاستفزاز المشاعر القوميّة لدى أتباعه وأنصاره، مع استمرار الحديث عن احتمالات إجراء انتخابات مبكرة، وخصوصاً في حال توتر العلاقات بين أنقرة وواشنطن، وهو ما يتوقّعه الكثيرون لأسباب عديدة.
وتدفع مثل هذه الاحتمالات الرئيس إردوغان إلى الاستمرار في التصعيد الخارجي، وهذه المرة في العراق، وليس سوريا، بسبب الجمود الذي يخيّم على الوضع في إدلب وباقي المناطق التي تتواجد فيها القوات التركية، وذلك بسبب انشغال موسكو وطهران، شريكتي أنقرة في أستانا وسوتشي، بأمور أخرى.
ويرى العديد من المراقبين في الضوء الأخضر الذي أضاءه رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي خلال زيارته إلى أنقرة في 18 كانون الثاني/يناير الماضي، فرصة للرئيس إردوغان للمزيد من التوغل والتواجد العسكري الفعال في الشمال العراقي. وقد أقام الجيش التركي مؤخراً حوالى 20 قاعدة ومهبط طيران في المواقع الاستراتيجية التي يصل عمق البعض منها إلى 50 كم داخل الشمال العراقي.
كما حظي التّواجد العسكري التركيّ (حوالى 10 آلاف) بموافقة حكومة أربيل التي زارها وزير الدفاع خلوصي أكار في 18 كانون الثاني/يناير الماضي بعد زيارته لبغداد، واتّفق مع العاصمتين على الكثير من تفاصيل العمل العسكري التركي في الشمال العراقي عموماً، بحجّة ملاحقة عناصر الكردستاني ومنعهم من التنقّل بين الشمال السوري والشمال العراقي.
وتتحدّث المعلومات عن استعدادات الجيش التركي للقيام بعمليات إنزال جويّ على جبال سنجار غرب الموصل (حوالى 130 كم من الحدود مع تركيا)، والسيطرة عليها، وإقامة قواعد فيها، كما هو الحال في بعشيقة شرق الموصل. وتهدف أنقرة من خلال هذه التحركات العسكرية، وبدعم من قوات الحليف الدائم مسعود البرزاني، إلى منع أي تحركات لعناصر الكردستاني (أعداء البرزاني) عبر الحدود العراقية مع سوريا.
وتسيطر وحدات حماية الشّعب الكردية (الذراع السوريّة للعمال الكردستاني التركي) على هذه الحدود من الجانب السوري، وبدعم من القوات الأميركية. وتتحدث المعلومات باستمرار عن مساعي هذه القوات لتعزيز مواقعها في المنطقة، وخصوصاً قرب الحدود مع تركيا، التي تتوقع لها المعلومات أن تواجه قريباً تحدّيات جدية في علاقاتها مع واشنطن، فقد قام الرئيس بايدن بتعيين بريت ماكغورك مسؤولاً عن السياسة الأميركية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهو معروف بعلاقاته الوطيدة مع قيادات “قسد” ووحدات حماية الشعب الكردية السورية، ما يفسر بيان الخارجية الأميركية التي شكّكت في صحة البيان الرسمي التركي في ما يتعلق بمقتل الأسرى، وقالت “إنها ستدين بشدة مقتلهم إذا تأكّدت لها صحة المعلومات”.
ومع استمرار الرهان على مستقبل العلاقة الأميركية مع طهران، وانعكاسات ذلك على الدور الإيراني في العراق وسوريا، يبدو واضحاً أن أنقرة تسعى بدورها إلى تعزيز تواجدها العسكري في البلدين المذكورين، وكسب المزيد من أوراق المساومة خلال الحديث عن تقرير مصير الدولتين العربيتين، من دون أن يتجاهل بعض الجنرالات الأتراك المتقاعدين، ومنهم حلمي صولماز تورك وأحمد ياووز، “أحاديث الرئيس إردوغان عن ذكرياته التاريخية وحساباته العقائدية في ما يتعلّق بالشمال السوري والعراقي عموماً”. وكان الرئيس إردوغان قد تحدث مع بدايات “الربيع العربي”، وحتى مسار أستانا (بداية 2017) عن هذه الحسابات، أي ما يسمى بحدود الميثاق المللي (الوطني) التي ترى في شمال سوريا والعراق معاً جزءاً من تركيا.
وكان تواجد العمال الكردستاني في الشمال العراقي منذ أواخر الثمانينيات مبرراً كافياً لأنقرة حتى تقوم بما لا يقل عن 30 عملية اجتياح بري ومئات الغارات الجوية طيلة السنوات الأربعين الماضية، من دون أن يكون ذلك كافياً للقضاء على الحزب المذكور الذي أصبح قوة لا يستهان بها الآن في شرق الفرات، وبدعم أميركي وغربي.
ورغم ذلك، لن تفكّر أنقرة، والقول للجنرال المتقاعد توركار أرتورك، “في أي حوار مع دمشق لمعالجة هذه المشكلة، على الرغم من أحاديث الرئيس إردوغان والمسؤولين الأتراك عن خطورة هذا التواجد الذي يهدف إلى تقسيم سوريا”. وقد خفّ الحديث عن هذا الخطر مؤخراً، بعد أن سمحت واشنطن وموسكو في 9 تشرين الأول/أكتوبر 2019 للجيش التركي بالتوغل شرق الفرات، ليسيطر على المنطقة الممتدة من تل أبيض إلى رأس العين (110 كم) بعمق يصل إلى 30 كم.
ومع انتظار الموقف الأميركي المحتمل تجاه إيران، وعبرها سوريا والعراق، تراقب أنقرة عن كثب الوساطة الروسية الصعبة بين “قسد” ودمشق، وتتخوف لمثل هذه المصالحة (تعرقلها القيادات الكردية التركية والإيرانية) أن تنعكس عليها بشكل سلبي، كما حصل في سنوات التوتر بين البلدين، عندما كان عبد الله أوجلان في سوريا، وغادرها في 9 تشرين الأول/أكتوبر 1998 إلى اليونان، وتوجه منها إلى روسيا، ثم إيطاليا، وأخيراً كينيا، إذ قامت المخابرات الأميركية والإسرائيلية باختطافه وتسليمه لأنقرة.
وقد بات واضحاً أن أنقرة، ومع حملات التصعيد داخلياً ضد الكرد، لن تتراجع عن نهجها السياسي والعسكري الحالي في الشمال السوري والعراقي لأسباب عديدة، ومنها رضا بغداد وأربيل وتجاهل موسكو وواشنطن الآن لمثل هذه المواضيع التي لا شكّ في أنها تنتظر نتائج الحوار الإيراني- الأميركي، في الوقت الذي تراقب طهران كل هذه التحركات عن كثب، لما لها علاقة مباشرة بحساباتها في العراق، وعبرها في سوريا على امتداد الحدود العراقية السورية، مع استمرار خطر “داعش” في المنطقة.
وفي جميع الحالات، يسعى إردوغان لكسب المزيد من الأوراق، أي المواقع، في سوريا والعراق، ليضمن مكانه على الطاولة أولاً، ومن ثم ليرفع صوته عالياً خلال المساومات الّتي يحتاج إليها داخلياً، للتغطية على أزماته السياسية والاقتصادية والمالية الصعبة جداً، فهو لا يريد للشعب التركي أن يتحدّث عن هذه الأزمات، وما عليه إلا أن يبحث عن المزيد من حالات التصعيد العسكري والسياسي خارجياً، وكالعادة بنكهة دينيّة وقوميّة. ويهدف من خلال هذا التصعيد إلى التخلّص من أعدائه في الداخل، حتى يتفرّغ أكثر للخارج، وهو يعتقد أنّه أكثر حظاً من الآخرين، مثلما يعتقد في الداخل.
ويفسّر ذلك حديثه عن دستور جديد يساعده للتخلّص من الجمهوريّة العلمانيّة الأولى وإقامة جمهوريّته الإسلامية الثانية على أنقاضها، على أن يحكمها بمفرده من دون أيّ منافس أو منازع، حتى يفعل ما يشاء في الداخل والخارج، ووفق مزاجه الشخصي الذي لا يريد لأحد أن يعكّر صفوه!
الميادين نت