إردوغان يريد تقرير مصير 5 دول عربية والباقي على الحساب

 

بعد استلامه السلطة نهاية تشرين الثاني/نوفمبر 2002، قام رئيس الوزراء التركي آنذاك عبدالله غول بأول زيارة خارجية له إلى دمشق في 4 كانون الثاني/يناير 2003، وذلك في إطار جولته الإقليمية لمنع العدوان الأميركي على العراق، حيث زار القاهرة والرياض وعمان.

كانت هذه الجولة بداية سياسات الانفتاح التي انتهجها حزب العدالة والتنمية تجاه العالم العربي والإسلامي، على الرغم من أن إردوغان الذي أصبح رئيساً للوزراء في 14 آذار/مارس 2003، أعلن تأييده للحرب الأميركية، خلافاً لقرار البرلمان في 1 آذار/مارس، الذي لم يسمح للقوات الأميركية باستخدام الأراضي والأجواء التركية التي فتحها إردوغان بعد يوم من بدء العدوان الأميركي.

موقف إردوغان هذا لم يمنع أنقرة من الاستمرار في سياسات الانفتاح على إيران والدول العربية التي أصبحت صديقة لتركيا، التي طورت علاقات إيجابية مع جميع الدول من دون التدخل في شؤونها، بل مساعدتها لإنهاء الخلافات في ما بينها، بما في ذلك مساعيها لتحقيق المصالحة السورية– الإسرائيلية.

وجاء ما يسمى بالربيع العربي ليشجع الرئيس إردوغان على التفكير بأسلوب جديد في التعامل مع الدول العربية على أساس عقائدي، وهو ما دفعه إلى دعم هذا الربيع عبر زياراته المتتالية لمصر وتونس وليبيا للفترة الممتدة بين 13 و16 أيلول/سبتمبر 2011، في رسالة واضحة منه لإسلاميي هذه الدول، وقال لهم “إن تركيا معكم”.

وكان ذلك بضوء أخضر، إن لم نقل بمباركة أميركية وغربية، هدفها تطبيق ما يسمى بمشروع الشرق الأوسط الكبير. وكان إردوغان، وباعتراف منه، أحد الأعمدة الرئيسية لهذا المشروع، مع حديث الغرب عن تسويق النموذج التركي العلماني الإسلامي إلى دول المنطقة وأحزابها وقواها الإسلامية، فسقطت أنظمة تونس ومصر وليبيا واليمن، بدعم من الغرب وأنظمة الخليج التي تصدّت لثورة الشعب البحراني، ولكنها تعاونت مع تركيا “لإسقاط النظام في سوريا”، فتصدّت لها إيران، وأفشلت مخطّطاتها، بدعم من حزب الله، ولاحقاً روسيا.

وأياً كانت التطورات اللاحقة التي أدت تركيا دوراً أساسياً ومفصلياً فيها، فقد ساعد الربيع العربي الرئيس إردوغان على تطبيق العديد من مشاريعه ومخططاته الخاصة في المنطقة، التي أراد لها أن تعود إلى الحضن العثماني التركي تحت راية الخلافة والسلطنة التي تشجع لها إسلاميو المنطقة، بل والإسلاميون من جميع أنحاء العالم، ما دام إردوغان كان، وما زال، يتحدث عن العقيدة الإخوانية التي تجمعهم جميعاً سياسةً وجهاداً وسلاحاً، وهي العناصر الثلاثة التي اعتمد عليها في مجمل سياساته الإقليمية، المطعَّمة تارة بالمذهبية، وأخرى بالقومية التركية، فقد تحدث إردوغان عن تركمان العراق وسوريا ولبنان وأحفاد العثمانيين في ليبيا، بل وحتى في الصومال، معتبراً ذلك سبباً مهماً في اهتماماته، إن لم نقل تدخلاته في الدول المذكورة.

وأصبح إردوغان من خلال هذه العناصر الثلاثة طرفاً رئيسياً في مجمل تطورات العراق وسوريا وليبيا والصومال (والسودان قبل سقوط البشير)، حتى إذا تجاهلنا علاقته الاستراتيجية مع الأمير القطري تميم، الذي عقد آمالاً كبيرة على علاقته مع إردوغان، رغم القاعدتين الأميركيتين المهمتين على أرض بلاده، التي احتضنت العساكر الأتراك الذين ذهبوا إلى الدوحة لحماية آل ثاني من أي عدوان سعودي وإماراتي مدعوم من مصر على قطر صيف العام 2017.

وتصدى الرئيس إردوغان، ومعه الأمير تميم، للدول الثلاث، وهذه المرة على الأرض الليبية، فدعم حكومة السراج المدعومة من مختلف الفصائل الإسلامية التي تقاتل قوات حفتر، التي تساعدها الدول المذكورة، وهي مصر والإمارات والسعودية.

ولم يهمل إردوغان الحديث عن مليون من ذوي الأصول العثمانية التركية، وقال عنهم “إنهم موجودون في ليبيا من أيام الحكم العثماني لليبيا قبل 450 عاماً، والتاريخ العثماني يقول إن البعض منهم يهود”، ما يعني أن أنقرة لا ولن تتخلى عن ليبيا التي بات واضحاً أن إردوغان سيكون اللاعب الرئيسي في تقرير مصيرها، كما سيكون لاعباً أساسياً في تقرير مصير الصومال بعد التغلغل التركي الواسع والفعال فيه، وفي جميع المجالات، وأهمها السياسية والعسكرية والأمنية، وهو الحال بالنسبة إلى إردوغان في العراق، حيث الأقلية التركمانية وعدد من العشائر والقوى والفصائل السنية التي أقامت أنقرة علاقات واسعة معها، ليساعدها ذلك على دعم التواجد العسكري التركي في العديد من مناطق الشمال العراقي، والجيش التركي موجود هناك منذ بداية التسعينيات، بحجة ملاحقة مسلّحي حزب العمال الكردستاني.

ولم يهمل إردوغان علاقاته مع مسعود البرزاني، وكان حليفه المهم في الشمال العراقي ضد العمال الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة الرئيس الراحل جلال الطالباني.

يعني ذلك أن إردوغان سيكون طرفاً مهماً في عملية تقرير مصير العراق قبل الانسحاب الأميركي أو بعده، ويبدو أنه لن يتحقق إلا بعد أن يتخذ الرئيس ترامب قراره الخاص بشرق الفرات، الذي يهم إردوغان أكثر من أي طرف آخر، فقد بات واضحاً أن وحدات حماية الشعب الكردية ووجودها العسكري في المنطقة، دفعت وستدفع الرئيس إردوغان إلى وضع العديد من الخطط لمواجهة خطرها المحتمل ببقاء القوات الأميركية أو بمغادرتها للمنطقة.

ولا تهمل أنقرة احتمالات المصالحة بين هذه الوحدات ودمشق التي يتخوف المسؤولون الأتراك من أن تستخدم الأخيرة مسلحي هذه الوحدات، وعددهم حوالى 50 ألفاً يملكون كل الأسلحة الأميركية المتطورة، ضد الوجود التركي العسكري والسياسي في الشمال السوري، من إدلب إلى رأس العين على طول 700 كم من الحدود السورية مع تركيا.

ويكتسب التحالف بين أنقرة وعشرات الآلاف من المسلحين الإسلاميين في سوريا، بمختلف فصائلهم، أهمية أستراتيجية بالنسبة إلى الرئيس إردوغان، الذي يريد لهذه الفصائل أن تساعده على تطبيق مخططاته ومشاريعه الخاصة بسوريا، وربما العراق، ومن خلالهما في المنطقة العربية عموماً، ليبقى حينها لاعباً أساسياً فيها، فلا يسمح لأحد أن يقرر مصيرها من دون أن يضع بعين الاعتبار الحسابات التركية السياسية والاقتصادية والتجارية، والأهم التاريخية والعقائدية.

وبات واضحاً أن الرئيس إردوغان لا ولن يتخلى عن هذه الحسابات ما دام يعتقد أنه، وقبل أي طرف آخر، الأولى بتقرير مصير الدول المذكورة، أي سوريا والعراق وليبيا وقطر والصومال، ومن خلالها دول أخرى، كمصر والسودان وتونس والجزائر والمغرب ولبنان وموريتانيا واليمن، حيث التحركات التركية في تلك الدول التي تتواجد فيها قوى إسلامية تتضامن مع إردوغان.

ويبدو واضحاً أنه يستفيد من الوضع الذي لا تحسد عليه الدول المذكورة، وهو المستفيد الوحيد من هذا الوضع بغياب الإرادة الوطنية لمعالجة المشاكل الداخلية، وبالتالي الإرادة القومية التي نجح الربيع العربي في تدميرها، بعد أن كانت متصدعة لأسباب عديدة، أهمها أنظمة الخليج، وبشكل خاص السعودية، فقد كان آل سعود، وما زالوا، السبب الرئيسي في دمار المنطقة، بعد أن تحولوا إلى حليف استراتيجي لأميركا بعد لقاء الملك عبدالعزيز بالرئيس روزفلت في 14 حزيران/يونيو 1945.

وسخّرت الرياض بعد ذلك التاريخ كل ما تملكه من إمكانيات مالية ودينية وطائفية خدمة للمشروع الأميركي الذي يصب بدوره في مصلحة المشروع الصهيوني. وكان الكثيرون في المنطقة في خدمته بشكل مباشر أو غير مباشر، وما زالوا، وهم يتحجّجون بإيران. ويعرف الجميع أنه لولا الأخيرة لكانت “إسرائيل” هي التي تقرر مصير المنطقة بأكملها، ليس من النيل إلى الفرات فحسب، بل من المحيط إلى الخليج أيضاً.

يبقى الرهان الأكبر، وربما الأخير، على التحدي التاريخي والعقائدي بين الرئيس التركي إردوغان الذي يساوم بورقة الإخوان والرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، الذي يواجههم، ومعه آل سعود، الذين يعادون إردوغان حفيد السلطان سليم، الذي دخل القاهرة في 22 كانون الثاني/يناير 1517، ليعود منها خليفة للمسلمين.

وتمرَّد باسمهم محمد بن سعود على الدولة العثمانية اعتباراً من العام 1790، فقضى عليه إبراهيم باشا، نجل محمد علي باشا حاكم مصر، التي أسس فيها أحمد البنا حركة الإخوان المسلمين بعد 5 سنوات من قيام جمهورية أتاتورك العلمانية التي يبدو أن إردوغان يريد أن يتخلّص منها.

إنها فعلاً معادلة عجيبة بكل معطياتها، وكلها على حساب الجغرافيا العربية، وهي على هذه الحالة منذ مئات السنين، باستثناء بعض سنوات النضال والصمود والكرامة في بعض دولها، التي عانت شعوبها، وما زالت، كثيراً بسبب هذه الصفات النبيلة!

الميادين نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى