دخل الذكاء الاصطناعي بقوة للحروب، وتطورت وسائل القتال، من دون أن يلحظ القانون الجنائي الدولي تطوراً موازياً يتعلق بآليات المساءلة القانونية بشأن ارتكاب جرائم في تلك الحروب.
كشفت عدة تقارير إعلامية تحقيقات استقصائية أدّت إلى كشف جديد، وهو أن “إسرائيل” استخدمت تطبيقاً للذكاء الاصطناعي، مزوَّداً بقاعدة بيانات عن مقاتلي حماس والجهاد الإسلامي، وأن ذلك التطبيق، الذي يُطلَق عليه اسم “لافندر”، أنشأ قاعدة بيانات من آلاف الأسماء، يعتقد أنهم من مقاتلين في مختلف المراتب من السلم العسكري، وحدد 37 ألف هدفاً محتملاً للقتل، بالإضافة إلى استخدام نظام آخر يقوم على تحديد المباني والمنشآت لقصفها، يدعى “جوسبيل”.
ويقول التقرير إن تطبيقات الذكاء الاصطناعي تلك كانت تحدد الهدف، وتتبعه، وتختار الوقت الذي يتم فيه قتل “عنصر من حماس، بغضّ النظر عن رتبته”، وهو الوقت الذي يوجد فيه في المنزل مع عائلته، أو عبر برنامج يُطلَق عليه عنوان “أين أبي”، إذ لم يكن الجيش الإسرائيلي مهتماً بقتل عناصر حماس والجهاد في المنشآت العسكرية أو في أثناء العمليات، بل كان من الأسهل استهدافهم في منازلهم، وكان هذا النظام مصمّماً لذلك.
ويضيف التقرير، الذي نُشر بناءً على شهادات مسؤولين إسرائيليين، أن هذه البرامج سمحت بقتل مئات المدنيين الفلسطينيين كأضرار جانبية لقتل عنصر واحد من حماس، بغض النظر عن رتبته، وأنه في كثير من الاحيان تمّ تدمير بيوت وقتل عائلات بأكملها من دون أن يكون هذا العنصر موجوداً في المنزل.
وكشف التقرير أن الهجوم كان يتم عبر استخدام ما يطلق عليه “القنابل الغبية”، أي قنابل غير موجَّهة، تدمر المبنى بكامله على مَن فيه.
والسبب يعود، بحسب مصادر إسرائيلية تمت الاستعانة بها في التقرير، إلى أنه “لن نقوم باستخدام قنابل ذكية ضد مقاتل غير مهم، لأنها غالية جداً، ولدينا نقص فيها”. وأضافت المصادر: “في مرحلة لاحقة، وسعت الأنظمة عملها، وأصبحت تضيف إلى الأهداف أيضاً أفراد الإغاثة، وضباط الشرطة، وهي أهداف لا يفضَّل قصفها، على رغم أن هؤلاء يساعدون حكومة حماس، لكنهم لا يمثلون خطراً على جنودنا”.
بالطبع، في هذه التقارير مخالفات جسيمة للقانون الدولي الإنساني، وأهمها مخالفة مبدأي: التمييز بين المدنيين (والأعيان المدنية) والعسكريين، والمشاركة المباشرة في الأعمال العدائية.
أ- التمييز بين المدنيين والعسكريين
المبدأ الأساسي الذي يمثل حجر الزاوية في القانون الدولي الإنساني هو مبدأ التمييز الذي يجب على جميع أطراف النزاع التزامه في جميع الأوقات، أي “التمييز بين السكان المدنيين والمقاتلين، وبين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية، ثم توجه عملياتها ضد الأهداف العسكرية من دون غيرها” (المادة الـ48 من البروتوكول الإضافي الأول).
وهذا يعني أنه يجب أن تكون هناك حدود تعريفية واضحة بين “السكان المدنيين” (الذين هم أشخاص محميون، ولا يمكن استهدافهم عمداً مطلقاً إلا إذا غيروا وضعهم إلى مقاتلين أو إذا حملوا السلاح، وذلك بحسب المادة الـ50 (1) البروتوكول الإضافي الأول من اتفاقيات جنيف، وبين “المقاتلين” (الذين يمكن استهدافهم عمداً).
ب – المشاركة المباشرة في الأعمال العدائية
ينص مبدأ التمييز في النزاعات المسلحة غير الدولية على أن كل الأشخاص من غير الأعضاء في القوات المسلحة التابعة للدول، أو من غير العناصر في جماعات مسلحة منظمة تابعة لأحد أطراف النزاع، هم أشخاص مدنيون، وبالتالي يتمتعون بالحماية من الهجمات المباشرة ما لم يقوموا بدور مباشر في العمليات العدائية، وعلى مدى الوقت الذي يقومون خلاله بهذه المشاركة.
وهذا يعني أنه حين يتوقف المدنيون عن المشاركة مباشرة في العمليات العدائية، أو حين يتوقف أعضاء في مجموعات مسلحة منظمة منتمية إلى طرف من غير الدول عن القيام بوظيفتهم القتالية، فإنهم عندها يستعيدون الحماية الكاملة الممنوحة للمدنيين ضد الهجمات المباشرة، الأمر الذي يعني أن قتلهم قد يُعَدّ جريمة حرب في حال لم يكن هذا القتل بدافع الضرورة العسكرية.
ج – ماذا يعني أن برامج الذكاء الاصطناعي أعطت الأوامر وقامت بتلك العمليات؟
على الرغم من الضرر الأخلاقي المعنوي الذي يمكن أن تواجهه “إسرائيل”، لكن من الناحية القانونية فإن هذه الادعاءات تسمح بالإفلات من العقاب. وعليه، من مصلحة “إسرائيل” أن تدّعي أن “الآلة” هي من ارتكب الجرائم، فالمسؤولية الجنائية في المحاكم هي مسؤولية جنائية فردية، بحسب القانون الدولي الجنائي.
تُرتكب الجرائم الدولية “بواسطة أشخاص، وليس من جانب كيانات مجرّدة، وفقط من خلال معاقبة الأشخاص الذين يقومون بهذه الانتهاكات، يمكن فرض القانون الدولي”.
هذا الاقتباس، من الحكم الصادر عن محاكم نورمبرغ، يُعَدّ الحجر الأساس للمسؤولية الجنائية الفردية عن الجرائم الدولية المرتكبة، كالإبادة وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، والتي عادت فيما بعد وأكدتها المحاكم الدولية المتعددة، ومنها المحكمة الجنائية الدولية.
وعليه، دخل الذكاء الاصطناعي بقوة للحروب، وتطورت وسائل القتال، من دون أن يلحظ القانون الجنائي الدولي تطوراً موازياً يتعلق بآليات المساءلة القانونية بشأن ارتكاب جرائم في تلك الحروب.
وبالتالي، تحاول “إسرائيل” أن تستفيد من هذه الفجوة كي يفلت مسؤولوها من العقاب والمساءلة، سواءٌ في الداخل أو الخارج.
الميادين نت