إشكاليات الحل السياسي في سوريا
يبدو أن أطرافاً إقليمية ودولية فاعلة باتت مقتنعة بضرورة إنجاز «تسوية سياسية» في سوريا. ويرتبط ذلك بمجموعة من التحولات: تسارع وتيرة العمليات العسكرية، واتّساع المساحات الجغرافية التي تسيطر عليها المجموعات المتطرفة، وتوسيع دائرة الصراع إلى خارج الحدود السورية، وارتفاع مستوى التنسيق بين السعودية وتركيا وقطر، وتوقيع الاتفاق النووي بين إيران ودول (5+1)، وارتباط تحوّلات ومآلات الأوضاع العسكرية والسياسية في سوريا مع التدخل السعودي في اليمن. وقد جاء كل ذلك توازياً مع التوافق الأميركي ـ التركي الذي يسمح لواشنطن باستخدام قاعدة أنجرليك لمحاربة «داعش»، ولأنقرة بمحاربة «حزب العمال الكردستاني»، كما «داعش» بعد التفجير الأخير الذي تبناه تنظيم «الدولة» في تركيا، والذي كان له دور في تغيير موقف أنقرة من التنظيم.
في السياق ذاته، تشاع معلومات عن مفاوضات بإشراف روسي بين مسؤولين سوريين وسعوديين. وقد سبق ذلك تصريح وزير الخارجية الروسي ونظيره الأميركي في منتجع سوتشي عن ضرورة محاربة الإرهاب لكون خطره بات يتجاوز الجغرافيا السورية، وعن إمكانية تنظيم انتقال سياسي للسلطة، كما أكد الوزير الروسي على ضرورة إنشاء تحالف إقليمي لمواجهة خطر التمدّد الإرهابي. ولا ينفصل عن التحولات المذكورة التوافق بين «هيئة التنسيق» و «الائتلاف» المعارضين. ويتوقع كثيرون أن يكون ذلك بمثابة خطوة تحضيرية لمؤتمرات قادمة. بالتزامن مع ذلك، ونتيجة المتغيرات الميدانية واستناداً إليها، تشتغل العديد من الحكومات إضافة إلى المبعوث الأممي وفق أشكال وأهداف ومستويات مختلفة ومتباينة على توضيب مخارج سياسية. وفي سياق ذلك، تتم إعادة توضيب أطراف من المعارضة، وفق أشكال تتلاءم مع المبادرات التي يتم تداولها. وكان من الواضح أن مراهنة أطراف الصراع على الحسم العسكري أفضت إلى تراجع الدور السياسي للمعارضة، وولادة مسخ «الدولة الإسلامية» وتغوّل الفصائل المتطرفة، وطغيان لغة القوة والعنف والتكفير والاستئصال، فضلاً عن تدمير الدولة السورية والعبث بمكونات المجتمع السوري وإدخالها في سياق صراعات مذهبية وجهوية ومناطقية.
انطلاقاً من ذلك كله، فإن الحلول التي تقدّمها حتى الآن الدول الداعمة للصراع تناقض طموح السوريين والقوى السياسية الوطنية العلمانية واليسارية، التي أكدت قبل الأزمة وما زالت على ضرورة التمسك بوحدة سوريا أرضاً وشعباً، وإقامة دولة الحق والقانون والمواطنة والديموقراطية.
وبالعودة إلى بدايات الأزمة، يبدو واضحاً أن رفض النظام للتغيير الديموقراطي واعتماده الحل الأمني، ورفض أطراف من المعارضة أيّ حل سياسي تدرّجي، إضافة إلى انضواء الأطراف كافة تحت عباءات إقليمية ودولية، أمور ساهمت في تغييب صوت العقل، وفي تغوّل مجموعات متطرفة لا تمتلك أي رؤية سياسية وطنية. ويندرج ذلك في سياق مشاريع دولية وإقليمية تهدف إلى فرض «مشروع ديموقراطية المكونات الأولية» باعتباره تتويجاً «للفوضى الخلاّقة» على غرار التجربة العراقية، وذلك توازياً مع إعادة توضيب المنطقة وفق أشكال وآليات تُعاد من خلالها إعادة إنتاج علاقات التبعية والتخلف والنهب والقهر والارتهان السياسي. وإذا كانت روسيا وإيران تعملان على تمكين محور المقاومة، وضمان مصالحهما ونفوذهما في المنطقة، فإن أطرافاً دولية وإقليمية أخرى، تشتغل للحدِّ من ذلك، ولإجهاض أي تحوّل ديموقراطي. وترى تلك الأطراف أن إجبار النظام السوري على نقل السلطة إلى معارضات يتم تأهيلها وتوضيبها في الخارج، لن يكون إلّا من خلال تغيير المعطيات الميدانية لمصلحة مجموعات مسلحة متفق بشأنها. وهذا يؤكد على الدوام أننا أمام مشهد دولي وإقليمي وداخلي على درجة عالية من التناقض والتداخل والترابط والتراكب. وهو ما يستدعي التأكيد على أن تأخير الحل السياسي، يرتبط بجملة من العوامل منها موقف الحكومة السورية، وتردّي أوضاع المعارضة وإشكالية علاقتها الدولية والإقليمية، والتباين والتناقض الذي يحكم طبيعة وبنية العلاقة بين الأطراف والتحالفات الإقليمية والدولية، وتكاثر المجموعات الإسلامية المسلحة، وتمدّد بعض منها. وهذا يؤكده فقدان «المعارضة» و «الجيش الحر» لأي سلطة فعلية ضمن «الأراضي المحررة»، علماً أن المعارضة تلك تعمل على توظيف «انتصارات» الجماعات الجهادية بأشكال تتناسب مع مصالحها وأهوائها السياسية.
إن تحولات المشهد السوري وتفاقم الكارثة الإنسانية في سوريا تجعلنا بحاجة إلى كل مواطن سوري يُصاب باللوثة الطائفية والعقل الثأري الانتقامي، ولم يسقط في أحضان أعداء سوريا والسوريين. وفي الوقت نفسه، فإننا بحاجة إلى قوى سياسية وطنية ديموقراطية لديها رؤى أخلاقية وإنسانية قادرة على الجمع بين الدفاع عن وحدة الشعب السوري ومصالحه وأهدافه في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وبين المحافظة على وحدة الدولة والمجتمع السوريين.
صحيفة السفير اللبنانية