لا يزال أرشيف فيروز والأخوين رحباني مبعثراً (وجزء منه ضائع). نستغل فرصة عيد ميلاد نجمتنا العزيزة (ولدت عام 1934، لكنّها سنة الولادة على الهوية هي 1935) لنتمنى لها قبل أي شيء طول العمر ودوام الصحة، وأن يحظى أرشيفها بالاهتمام الذي يستحق. من بين مواد هذا الأرشيف، سلسلة برامج تلفزيونية قدمتها فيروز مع الأخوين رحباني في «تلفزيون لبنان والمشرق» بين عامَي 1962 و1977. البرامج التي قُدمت بين عامَي 1962 و 1964 مفقودة كلياً أو جزئياً. يلقي هذا المقال بعض الضوء على هذه العروض المفقودة، مع الإشارة إلى أنّ معلومات هذا المقال غير كاملة والبحث مستمرّ
لم تكن عروض فيروز والأخوين رحباني في التلفزيون اللبناني عابرة، بل كانت من صلب مهمات «الفرقة الشعبية اللبنانية». فقد عرّف الأخوان رحباني عن فرقتهما رسمياً بالقول إنّها «تأسست لإحياء التراث الشعبي اللبناني والعربي على المسارح وفي التلفزيون والإذاعات والسينما». في أوائل عام 1962، وقّع الأخوان رحباني وفيروز أوّل عقودهم التلفزيونية مع «شركة تلفزيون لبنان والمشرق» التي كانت تستعدّ لبدء بثّها في ربيع العام نفسه. كانت قيمة العقد 155000 ليرة لبنانية، ما يعادل اليوم أكثر من نصف مليون دولار، وقد ذكرت الصحف يومها أنّ هذا العقد الأغلى في تاريخ العقود الفنية في لبنان، ويقدّم بموجبه الأخوان وفيروز مجموعة من البرامج لحساب «شركة تلفزيون لبنان والمشرق» حصرياً. في حديث سريع مع عاصي الرحباني لمجلة «الحسناء» في 13 آذار (مارس) من العام نفسه، ردّاً على أسئلة حول البرنامج المنوي تقديمه ليلة افتتاح التلفزيون الجديد، لم يفصح عاصي عن أي معلومة، بل اكتفى بالقول: «فرقة الرحباني سوف تقدم برنامجاً في التلفزيون مدته ساعة بالتمام والكمال. نحن الآن نتمرن على قطع مختلفة والمخرج [المدير الفني] هو صبري الشريف، كيف يصل هذه القطع؟ أيها يختار؟ أيها يترك؟ لا أستطيع أن أعرف ذلك منذ الآن».
أعلنت شركة التلفزيون الجديدة أنّ بدء بثها الرسمي على «القنال 11» سيكون مساء الأحد 6 أيّار (مايو). لم يظهر اسم فيروز في إعلانات سهرة 6 أيار، إلّا أنّ وجودها في تلك السهرة التي عرّفت بنجوم «القنال 11» أكيد، فاسمها يظهر في وثيقة عائدة لتلك الليلة، أدرجها جان ـــ كلود بولس في كتابه عن تاريخ التلفزيون في لبنان، كما يظهر اسمها في زاوية «برامج التلفزيون» ليوم 6 أيار في مختلف الصحف. لكن لا تتوافر معلومات عما قدمته فيروز في تلك الليلة. قطعاً، لم تقدم كما هو شائع أوبريت «حكاية الإسوارة» ليلة الافتتاح في 6 أيار. فحكاية الإسوارة قدمت في 13 أيار في مناسبة عيد الأضحى (مع منوعات غنائية أخرى، الأكيد أنّ من بينها «لبنان الأخضر»)، أي بعد أسبوع من الافتتاح الرسمي، وقد رافقتها إعلانات في الصحف، ومراجعات نقدية بعد البثّ وإعلانات شكر من شركة التلفزيون على عاطفة المشاهدين وتأييدهم لِـ «برنامج فيروز» الذي أخرجه، على الأرجح، عصام حموي، الذي أُرسل خصيصاً أيضاً من قبل التلفزيون لتصوير حفلة فيروز في لندن في المدة نفسها (22 أيار 1962) ليُصار إلى عرضه تلفزيونياً (الصحف ذكرت تاريخ العرض لكن لا دليل على أنّه قد تم فعلياً). في 23 كانون الأول (ديسمبر) من عام 1962، عُرض على شاشة «تلفزيون لبنان والمشرق» برنامج «أيام التلج» الذي أعدّه الأخوان رحباني، وكانت بطلته فيروز، ونجوم الفرقة الشعبية يومها (سميرة بعقليني، غيتا دايه، جوزيف عازار، وليم حسواني….). كان لهذا البرنامج سيناريو «ميلادي» يربط بين فقراته المُغناة ولعب عاصي الرحباني فيه دور شيخ الميلاد. انتقدت بعض الصحف الجوّ الحزين الذي طبع البرنامج، فكتبت «النهار» مقالاً قصيراً غير موقّع عنوانه «الفرح العظيم الذي استحال جمعة عظيمة»، فحواه أنّ المعجزة التي حقّقتها «القنال 11» أنّها جعلت من كانون الأول نيساناً، مع أنّ المقال أشاد بكل فريق عمل البرنامج (فيروز وعاصي وفيلمون وهبي وصبري الشريف والمخرج أنطوان ريمي…).
جريدة «لسان الحال» أفردت للبرنامج قبل عرضه ما يقرب من نصف صفحتها الأخيرة، وكانت إحدى رعاته، وقد كتب الأخوان رحباني أغنية طريفة بمثابة إعلان لجريدة «لسان الحال»، غنّاها «الثلاثي» الهام رحباني، سهام شماس وهدى حداد، وبُثّت خلال البرنامج.
أما فيروز، فقد افتتحت البرنامج، بحسب الصحف، بأغنية «عم يلعبوا الولاد»، ومن بين ما غنّت: «سني عن سني» و«جايبلي سلام» بالإضافة إلى ترانيم دينية.
تضمّن البرنامج فقرة خاصة بأغنيات العودة (من بينها «سنرجع»، و«بيسان» و«يافا») كان لها صدى كبير، تابعته بدقّة جريدة «الحياة»: فقد تلقت فيروز والأخوان رحباني بعد البرنامج الكثير من برقيات الشكر من لاجئين فلسطينيين، بالإضافة إلى سلة زهر من الحاج حسين العويني مع كلمة منه. وقد زار وفد من الاتحاد النسائي الفلسطيني فيروز لشكرها، وقالت رئيسته وديعة خرطبيل إنّ أنجح دعاية لفلسطين هي فيروز وإنّ على الجامعة العربية التعاون معها والعمل على عرض برنامجها في العالم. وفي أوائل عام 1963، قام وفد يمثّل «الهيئة العربية العليا لفلسطين» مؤلف من سعد الدين عبد اللطيف، حيدر الحسيني ونايف شبلاق بزيارة فيروز لشكرها باسم الهيئة العربية العليا على البرنامج الذي قدمته في التلفزيون وقدم الوفد لفيروز «هدية رمزية تعبيراً عن تقدير الهيئة والفلسطينيين جميعاً لمجهودها في تعبئة الشعور القومي وإثارة الهمم لاستعادة الوطن السليب».
البساطة الرائعة
بعد نجاح فيروز التلفزيوني عام 1962 وتهافت المعلنين على برنامج «أيام التلج»، اعتمد «القنال 11» في برنامج فيروز التالي عام 1963 أسلوباً جديداً. في مناسبة ذكرى تأسيس التلفزيون وعيدي الشهداء والأضحى في 6 أيار 1963، كان من ضمن برامج «القنال 11» مغناة «عودة العسكر» للأخوين وفيروز (مغنّاة من 20 دقيقة، عرضت على «مسرح الكابيتول» في 30 كانون الأول 1962). لكن اسم فيروز استعمل للإعلان عن برنامج خاص بالعيد يدوم ثلاث ساعات، مع أنّ قسماً كبيراً من هذا البرنامج لم يكن لفيروز والأخوين رحباني علاقة به. وبينما كانت «فرقة الأنوار» المنافسة في الوقت عينه على «القنال 7»، بدأ برنامج «القنال 11» عند الثامنة مساء بإعادة «حكاية الاسوارة»، ثم قُدمت فقرات لنجاة الصغيرة وشادية ونجوم التلفزيون في ذلك الوقت (محمد شامل، شوشو، الياس رزق…). بعدها عادت فيروز والفرقة الشعبية ببعض الأغنيات (بينها أغنية خاصة بالعيد) وباسكتش لنصري شمس الدين وفيلمون وهبي، وأخيراً مغنّاة «عودة العسكر»، مصوّرة خصيصاً للتلفزيون. وقد حوى هذا التصوير مناظر خارجية، بالإضافة إلى التصوير في الاستديو، وفقاً لمقال نُشر في «لسان الحال» لسعيد عقل الهائم بـ «أخت الملائك» و«صاحبة أجمل صوت في العالم». في العام التالي، وتحديداً في 27 آذار (مارس) 1964، نقلت «القنال 11» مباشرة على الهواء ترتيل فيروز في الجمعة العظيمة من كنيسة انطلياس (لم يظهر من هذه التراتيل أي مشهد حتى اليوم، وهي على الأرجح المرة الأولى التي تبث فيها تراتيل فيروز في الجمعة العظيمة كاملة على التلفزيون). وسبقت هذا النقل المباشر حملة إعلانية في الصحف. وفي شهر أيار، كان من المقرر أن تحيي فيروز مع الأخوين رحباني والفرقة الشعبية برنامجاً حياً في «القنال 11» في يوم 17، في مناسبة مرور سنتين على افتتاحها، لكن البرنامج تأجل أسبوعاً، وبث بشكل حيّ في 24 أيار. وكما في سهرة عيد الشهداء عام 1963، انقسم برنامج السهرة إلى ثلاثة أقسام. وُكّل الأخوان رحباني بالقسمين الأول والأخير، أما ما بينهما فلم يكن لهما علاقة به. افتتحت فيروز البرنامج بأغنية «مينا الحبايب» التي كتبت خصيصاً للمناسبة، فكانت المرة الأولى التي تذاع فيها، تلتها «بكتب اسمك يا حبيبي». وكان من ضمن البرنامج أيضاً مشهد «يا أهل الضيعة» و«عالطاحونة» وعلى ذمة إحدى الصحف، مقطع صغير من أغنية «عتاب».
أما القسم الأخير من السهرة، فلم يبدأ إلا في الساعة الثانية عشرة، بحسب الصحافة، بسبب «الحشو الفارغ» لفقرات نجوم التلفزيون، و«سيل الإعلانات». وكان هذا القسم عبارة عن مشهد الموشّحات، المشهد الذي صدر على الوجه الأول من أسطوانة «أندلسيات» عام 1966. برنامج 24 أيار 1964 الذي ظهر منه أكثر من مقطع في السنوات الأخيرة على شبكة الإنترنت، يشبه إلى حد كبير فصل المنوعات الذي قُدم مع «الليل والقنديل» في معرض دمشق و«تياترو لبنان» عام 1963.
كالعادة، كتب سعيد عقل تعليقاً بعدما شاهد البرنامج المذكور: «أمس سهر لبنان وسوريا مع فیروز. تعاون التلفزيونان على إعطاء شعبيهما هنيهات سعادة. غنت فيروز بطيبة وسحر يتخطيان كل ما أثر عنها. وكانت موسيقى الرحبانيين ومقطوعاتهما التمثيلية في مستوى نوده دوماً لأجهزتنا. جميعاً كانوا عند ثقة من انتظروهم […] ترى يستحيل على صبري الشريف هذا المفضل الأول على نهضتنا الفنية أن يمدّ التلفزيون ولو مرة في الشهر بشيء من هذه البساطة الرائعة؟»
صحيفة الاخبار اللبنانية