إعادة تشكيل العالَم
جرى حديث طويل، ومتشعِّب، حول غاية العَولَمة في إعادة تشكيل العالَم الحديث بما ينتهي إلى وحدته السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والقيميّة، وظنّي أنّه جدلٌ اقتصر على مستوى الادّعاء ولم ينتقل إلى مستوى التحقُّق الفعليّ، لتعذُّر ذلك من الوجوه كافّة؛ فلن يُعاد تشكيل العالَم على نحوٍ جديد تندمج فيه القيَم العامّة، وتتداخل فيه المصالح الكلّية، كما وعدت العَولَمة بذلك إلاّ من ناحية زيادة انكفاء المجتمعات التقليديّة على نفسها، وإنتاج مأثوراتها لكي تُعزِّز بها مفهوماً معيّناً للهويّة الصائنة للذّات، وإعادة بعث الصُّور الموروثة عن الآخر، وفي المُقابِل توسيع سيطرة المجتمعات الحديثة على سواها من المجتمعات في العالَم.
بعد ربع قرن من بزوغ مفهوم العَولَمة، صار من المناسب القول إنّها عمَّقت تصوّرات متناقضة عن النفس والتاريخ والهويّة، وأسهمت في ظهور تطلّعات مُتباينة، ولن يتحقّق رهانها في تخطّي الاختلافات وإعادة توحيد المجتمعات الإنسانية.
فادّعاء العَولَمة بتشكيل عالَمٍ تتوحّد فيه المفاهيم والقيَم والأهداف تضمن مغالطة لا سبيل إلى الأخذ بها على مستوى الواقع، لأنّه في إطار فرضيّة التقارب التي تقول بها العَولمة تكمن سلسلة من ضروب التنافر وعدم الانسجام التي تقوِّض تلك الفرضية.
فالحثّ على استيراد نماذج غربية من قِبل المجتمعات التقليدية يفضح عدم اتّساق تلك النماذج مع نسق القيَم الأصلية في تلك المجتمعات، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإنّ تحريض تلك المجتمعات على التكيّف مع القيَم الغربية، جدَّد الآمال بردودِ فعلٍ خطيرة وغير محسوبة.
إلى ذلك، فإنّ التعجيل بتوحيد العالَم بحسب دعوى العَولمة قاد إلى ظهور نزعات التفرّد، والاعتصام بالذّات، وتنشيط الهويّات الخاصّة؛ والتأكيد على وجود نظامٍ واحد جديد يكون مسؤولاً عن السلطة، يعني فتح الأفق على مزيد من المُنازَعة وتفاقُم الصراع.
حين تدّعي العَولَمة وضْع نهايةٍ للتاريخ، فهي تمنحه معاني متعدّدة ومُتناقضة. فعدم توافق النموذج مع المجتمعات التقليدية لا يُنتظَر منه حلّ المشكلات المتوطِّنة فيها، بل إنّ محاكاة ذلك النموذج قد فشلت في جميع المجالات التي ظهرت فيها المحاكاة.
ما حصل هو تعميق مفهوم المحاكاة نفسها؛ فالنخب الثقافية والسياسية والاقتصادية مضت في اقتباس النماذج الغربية في أكثر من مجال، حتّى ولو أبدت ظاهرياً نوعاً من الاستنكار. فالعَولمة راحت تعمِّق التناقضات، وذلك قاد إلى نتيجة واضحة، وهي: إنّ المجتمعات غير الغربية وجدت نفسها ممزّقة وحائرة بين منهج التكيّف ومنهج الابتكار. ففي ضوء هذا كلّه، جدّدت العَولَمة بناء فكرة التبعية في كثير من مجالات الحياة.
ازدواجٌ خطير
ترتّب عن ذلك أنّ مفهوم العَولمة استند إلى تصوّرٍ ثقافي واقتصادي غايته إشاعة مفهوم المحاكاة الهادف إلى التبعية، وغاية التبعية تعميق الروح الامتثالية. فظهر ازدواجٌ خطير، ينبغي الانتباه له. ففيما اعتُبر هدف العَولَمة إنجاز اندماج كلّي للعالَم، ظلَّ ذلك الهدف مجرّد إطار عامّ لا يقدِّم حلولاً فعليّة لأنّه قام على انتقاء نموذجٍ ثقافيّ والسعي إلى تعميمه، فكان دافعاً إلى “صحوة الثقافات الطَّرفيّة” التي وجدت نفسها تقف في مُواجَهة هَيمَنة ثقافة المركزية الغربية، وكلما ازداد التناقض تعمّق الخلاف بحيث انغلق مفهوم الهويّة على نفسه عند بعض الثقافات القائلة بالخصوصية المطلقة، والجوهر الثابت، فأعيد في ضوء تشكيل الخصوصيات الثقافية والعرقية والدينية بما يوافق ضرباً انكفائيّاً من الإيديولوجيا يقول بالخصوصية، واقتراح خطّ تقدّم لا ينسجم مع خطّ التقدّم الغربي.
يُظهر التأمّل العميق في الثقافة الإنسانية عدم وجود ثقافات كَونية مُحتكَرة من قِبل ثقافة معيّنة، حتّى ولو كانت تلك الثقافة هي الثقافة الغربية. فكونيّة القيَم، واعتبارها نماذج فوق تاريخية وفوق وجودية، إنّما هي وَهْمٌ يُماثل أفكار أفلاطون، واعتراض الثقافة الغربية على أنساق ثقافية أخرى في العالَم لا يتّصل أساساً بموضوع عبادة القيَم الكونية، بل هو متّصل بالمصالح الغربية التي تبشِّر بثقافة من طُرزٍ خاصّة تخدم أهدافها.
وبما أنّ معاني الأنساق الثقافية مختلفة، فمن الطبيعي أن يظهر عدم قبولٍ للثقافة الغربية التي لها حيثيّاتها الخاصّة بها. وعليه، ينبغي علـى الغرب قبل أن يحقِّق الـعَولَمة الموعودة( بحسب المفكّر الفرنسي سيرج لاتوش صاحب كِتاب “تغريب العالَم”) أن يسأل عن: همجيّة الحضارة الغربية، بل وحتّى تعصّبها في نظر الآخرين، فهنالك أشياء عديدة في الأخلاق والعادات الغربية تبدو شنيعة ووحشية في نظر المجتمعات غير الغربية، وإذا كانت هذه المجتمعات قد سمحت بها أخيراً، فإنّ ذلك عائد إلى أنّه لم يكُن لديها خيار آخر، ولم تستطع منْع مُمارسات شائعة في الغرب مثلما يستطيع الغرب منْع المُمارسات التي تبدو للغربيّين غير مُحتمَلة.
الشروط التي تتبلور العَولَمة تحت رعايتها تكشف عمق التناقض بين السياقات التاريخية والقيَمية الخاصّة بالثقافة الغربية المُتمركزة حول نفسها، والسياقات التاريخية والقيَمية للثقافات التقليدية. والاختيار بين ذوبانٍ مُحتمل، وانكفاءٍ أكثر احتمالاً بدأ يتشكّل في أفق التفكير.
وكلّ اختيارٍ حاسم من هذا النوع تسبقه عمليّة اصطناع أو بعث تواريخ أو صُور رمزية، لتسويغ الذوبان أو الانكفاء. يصلح الماضي أن يكون ذخيرة لا تستنفد لكلّ ذلك. ففي حالات الحراك الكبرى، والخيارات الصعبة، تُفتح جعب التاريخ، ويُطلَق سراح التصوّرات الخبيئة في طيّاته.
وفي مواجَهة عناد يأخذ طابعاً تاريخياً مصيرياً، ينبغي التحذير من صُور الماضي عبر نقدها، فالنقد يُسهم في تأكيد الحقيقة التي تغيب في مثل هذه المنعطفات، وهي أنّ الذات كانت مكوّناً عامّاً ومُشترَكاً، تبلور في ظروفٍ تاريخيّة معيّنة، وأنّ التحدّيات المُعاصرة لا ينبغي أن توهِم أحداً بالتفرّد المطلق في الزمان والمكان.
وبالإجمال، فقد أعادت العَولَمة تصنيف المجتمعات مجدّداً في ضوء معايير مختلفة تقول بالتراتب، وربما التفاضل، وبذلك أسَّست لمواقف واضحة غايتها استخدام صُور الآخر في المنازعات الثقافية والسياسية، وهو ما سيحول دون اندماج العالَم حيث أمسى الآخر مدعاة للانكفاء على الذات.
*ناقد وباحث من العراق
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)