إقليم بدل وطن
” إقليم بدل وطن .. كل طبخة في الشرق الوسط … أميركا تعدّها . روسيا تضرم النار تحتها. أوروبا تبرّدها. اسرائيل تأكلها. والعرب… يغسلون الصحون هذا التحليل المختصر، بل الاتهام الصريح، بقلم شاعر. وقد كان محمد الماغوط، ربما منذ ولادته، يجرجر وراءه حبل سرّته، متهماً العالم بالتورط في صناعة الشر، كيفما اتجهت النوايا لصناعة الخير!
لم يسجن الماغوط أكثر من شهر أو شهرين، كقومي سوري في الخمسينات، ولكنه، منذ تلك اللحظة، فقد ســلامه وبرزت أمامه هذه الجملة ، التي لم يقرأها، على الأغلب، آنذاك، وهي لناشط في حقوق الإنسان :” ســجين واحـد يكفي للبرهان على أن هناك …سجون”!
وهناك دزينة من الأصدقاء، الشعراء والكتاب الذين، لحسن حظهم، أنهم رحلوا قبل أن يروا سورية التاريخ والحضارات تتفتت وتتمزق وتصبح خلال عام ونيف موطناً خطراً.
والأمر الذي ذكرني بالماغوط… هو تصفّحي مستشار الأمن القومي في الثمانينات” بريجنسكي” والكتاب المشهور عنوانه ” بين عصرين” والذي يحتوي على مواد نظرية، جرى تطبيق أفكارها… ويجري حتى الآن:”… سيزداد تمايز الجماعات العرقية والدينية في الشرق الأوسط… وعندئذٍ تكون المنطقة مجرد” إطار إقليمي” لتعايشها، بعد صراعها، وهذا بديل لمحاولات إنشاء الدول، الموحدة على أساس الدولة \ الأمة. وهو نفسه التفتيت الـذي أحـدث، في بداية القرن العشرين، “الكانتونات العربية!” ( مع تفادي رجفـة اليد التي رســمت تلك الخرائـط ، على عجل ، فصغّرت دولاً وكبّرت أخرى)
هذا التفتت القاعدي، والذي يحدث بمساعدتين : مساعدة العوامل المحلية ، بإدارة الدولة المركزية متزايدة التعفن (التعفن= تفتت). التي تخرج بفسادها وارتباكها من العصر، ومساعدة الخارج الأجنبي ، بالتدخل المباشر، فــي الأزمات ( كما حدث في ليبيا) أو غير المباشر( كما يحدث في سورية). وصولاً إلى تحويل البشر، من متحدين على أساس الهوية الكبرى ( الوطن\ الأمة ) إلى مفتيّين كجماعات تعـود إلى هوياتها الصغرى (الدين. الطائفة، العرق) ومن هنا درجت الكلمات الجديدة ذات الرنين المشبوه…( التعايش، والإقليم) في محاولة لإنتاج الإمارات، بدل الدول. الإقليم هو حيز جغرافي، وليس وطناً ماديا ومعنوياً، كمنجز مكاني لوحدة الجماعة.
والتعايش ، هو قوننة المحاصصة السياسية على الأسس سالفة الذكر… تعايش الهويات الصغرى، التي ستحاول ،
بسبب المحاصصة، تحسين شرط تفاوضها لإيقاف العنف، أو الذهاب إلى التدخل الخارجي ( أكراد العراق ـ مثلاً)
(مسيحيو لبنان السبعينات).
الشيء الذي لا ينتبه إليه منظرو الربيع العربي، من ” مثقفي احتراف الأزمات ” أن العنف، وقمته السلاح ، لا يفعل شيئاً سوى الإسهام بتزايد التمايز بين الجماعات الوطنية. أي الفرز، وبناء الخنادق المحمية بهذا التمايز.
والشيء الآخر الأخطر هو استسهال التعاون مع الخارج الذي يعلن، صراحة، رغبته بالتفتيت الهوياتي، الذي يضع أصنافاً من البشر موضع الخطر، وأصنافاً أخرى موضع الأمان. فيضرم” حروب الخوف، والخرف السياسي “.
الهويات الجديدة ، لشرق أوسط جديد هي ، من منظور ماغوطي ( إذا صح تعبير الشعر عن السياسة ) إقليم طائفي يصاغ فيه إسلام سياسي محترف ، يعترف بكيان إقليمي طائفي ، تصاغ فيه ، وعلى نحو نهائي اعترافات ، بالغـة الرسوخ، بدولة يهودية. بالتالي محذوفاً منها الفلسطيني… بوصفه مسلم الإقليم وعليه الالتحاق بجماعته.
الأخطر في ثقافة هذه المرحلة ، على صعيد الأزمة السورية، أن تؤدي كل الجهود المبذولة لإيجاد حل… أن تؤدي إلى تزويد الحل.
فبعد أن يصاب الجميع باليأس، يزوّرون الحل، فيصبح أمامنا الخيار الوحيد: شرعنة التفتيت. أي اختراع ” طائف ”
سوري لإقليم جديد ، لم يعد وطناً بل إقليم طوائف… وحسب
(أرجو المعذرة… الشعراء ليسوا صناع الكارثة ، بل شهود آلامها!)