إمبراطورية الإسلام في حوض النيل
من بين الأسئلة التي تشغل الباحث في أضابير التاريخ ذلك المتعلق بالصدام بين الإسلام والغرب في العصر الحديث، وهو سؤال تطرحه أزمات العنصرية المتصاعدة، ومخاوف الإسلاموفوبيا المتزايدة، لاسيما بعد ما أطلق عليه ثورات الربيع العربي التي بات الغرب بشقية الشعبوي والنخبوي يرى أنها حراك إسلامي بامتياز، وأضحى يتحسب على نحو أو آخر لتكرار مواجهات تاريخية جرت في عصور غابرة.
في هذا السياق جاء هذا المؤلف المثير» امبراطورية الإسلام في حوض النيل» للكاتب والباحث الإنكليزي دومنيك غرين ليحكي قصة أول صدام بين الإسلام والغرب في العصر الحديث، أو كما يقول بعض المعلقين من الممكن أن تكون قصة لما يجري في عصرنا الراهن.
إنها قصة نشوء إمبراطورية إسلامية على ضفاف النيل إلى الجنوب من مصر، وتغطي فترة لا تتجاوز ثلاثين عاماً امتدت من عام 1869 حين أقام الخديوي إسماعيـل احتفـالا رسميـاً بافـتـتـاح قناة السويس أمام الملاحة البحرية لتصل بين البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، ولتـــختـــصر الطــريق إلى المستعمرات البريطانيـة في الهند آنذاك، وانتهت مع انتهاء القرن التاسع عشر.
الكتاب يروي قصة ما يحدث عادة عندما يجد رئيس وزراء ذو ذهن ليبرالي متفتح نفسه أمام جماعتين متعارضتين من الأصوليين هما الأصوليون الإسلاميون والأصوليون المسيحيون، ففي أواخر القرن التاسع عشر كان نهر النيل مسرح أول مواجهة وقعت بين الغرب والإسلام في العصر الحديث. وفي خضم أول صدام استثنائي بين الأوروبيين والعرب والأفارقة نشأت ثلاث إمبراطوريات في فترة لا تتجاوز ثلاثين عاماً.
أما شخصيات هذه الإمبراطوريات فكانوا رجالاً استثنائيين وأسطوريين، هم: وليم غلادستون، الجنرال غوردون، ونستون تشرشل والجنرال كتشنر، وعلى رغم ذلك فهي قصة يرويها لنا أشخاص من غير ذوي العلاقة بهذا الصدام، هم: مبشر مسيحي وتاجر رقيق وموظف في القصر وجندي.
جوهر الكتاب ـ القصة يدور حول بلد عربي كبير تسقط فيه حكومة استبدادية علمانية بفعل تدخل غربي لكن تحركاً ارتدادياً إسلامياً يجعل القوى المحررة قوات احتلال.
في هذا السياق يجد رئيس وزراء هذا البلد ذاته واقعاً بين مطرقة التدخل في بلاده وسندان الحركة الإسلامية خارج بلاده فيتعثر ويسقط بعد أن خانه وزراؤه وانهارت تحالفانه وفي مواجهة جنرال هارب يضع السياسة في ميدان المعركة.
وبينما تنزلق المنطقة كلها في فوضى عارمة يقوم جند الله بهجومهم على ضفاف نهر عرف منذ القدم وتنشأ إمبراطورية عابرة.. هل هذا مشهد الشرق الأوسط في القرن الحادي والعشرين؟.
على رغم وجود شبه كبير في واقع الأمر، فإن الحديث هنا يدور حول أفريقيا في القرن التاسع عشر حين كان النيل مسرحاً لأول صدام كبير بين الغرب والإسلام في العصر الحديث. لقد كان من شأن هذه المسرحية الإنسانية والدينية أن طبعت عالمنا بطابعها وكانت النذير لأزمات تحدث في أيامنا هذه.
ففي خضم صراع استثنائي بين الأوربيين والعرب والأفارقة ظهرت ثلاث إمبراطوريات في غضون ثلاثين عاماً.
كانت الإمبراطورية الأولى تلك الألعوبة الصغرى بيد حاكم مصري مستبد وقد سقطت فريسة بين التدخل الأوروبي والقومية العربية.
أما الثانية فكانت نزوة أسلامية لرؤية معينة قادها مخلص مسلم وقد سقطت أمام التوسع الأوربي في أفريقيا.
وأما الثالثة فهي الإمبراطورية البريطانية التي جاءت على متن اهتمامات إنسانية لكنها بقيت واستمرت بفعل وحشية قوتها.
أنها قصة لعصر باتت فيه النيات الحسنة موضع مساومة، وبالتالي تفسح الطريق أمام سياسة الواقع التي لا تولي اهتماماً للأخلاق، ثم تتحدث عن كيفية صعود وسقوط الإمبراطوريات جراء تغيرات في الموقف… هل من تفصيلات تفكيكية لذاك الذي جرى في أفريقيا وقتها؟
وهل من انعكاسات من الماضي على الحاضر هذه الأيام حيث الصراع محتدم حول نهر النيل من جديد بحثاً عن المياه والكهرباء والطاقة ومن ثم النفوذ العسكري والسياسي والاقتصادي؟
رؤية الكتاب تبدأ حين نشأت إمبراطورية المهدي الإسلامية وحاول الخديوي إسماعيل الذي يعد المؤسس الثاني للدولة المصرية بعد جده الأكبر محمد على أن يجعل مصر دولة حديثة تأخذ بكل ما من شأنه أن ينهض بمصر، ويحاول الانفصال عن الدولة العثمانية، فجاء بالمهندسين والخبراء الأوروبيين ليضعوا أسس الدولة العصرية، لكنه أرهق الاقتصاد المصري بتحميله الكثير من الديون، ما أدى إلى فرض السيطرة البريطانية على مصر.
ما الذي يكسب هذا الكتاب مذاقاً خاصاً؟
لقد وصفت صحيفة «الغارديان» البريطانية هذا الكتاب بقولها «أنه كتاب رائع بأسلوب جميل»، وقالت «الايكونوميست» إن المؤلف «غرين» يكتب بأسلوب جذاب ويرسم بكلماته لوحات رائعة الجمال.
أما «بوسطن غلوب» فوصفته بقولها إنه «كتاب زاخر بالعلم والمعرفة، وساخر وممتع إلى حد يعجز عنه الوصف».
والمؤكد أنه فضلاً عن أن الكتاب يؤرخ لفترة معينة من الزمن فهو رائعة أدبية خطتها ريشة فنان يتحرك بخفة ورشاقة على مسرح العالم القديم، ينقل المشاهد من دون أن يدري من مصر إلى السودان وإلى بريطانيا والدولة العثمانية، ولا ينسى أن يتوقف في أوروبا ليحكي قصة التهافت الأوروبي على القارة السمراء. يصور الشخصيات بقلمه لنراها تنبض بالحياة وهي تتحرك أمامنا.
وبريشته أيضاً يرسم لوحات بانورامية لمعارك وقعت بين مقاتلين كانوا في بادئ الأمر ينأون بأنفسهم عن استعمال الأسلحة الحديثة ويفضلون السيف والرمح. ثم يرون أن لا مفر من استخدام البندقية، فيخوضون حرباً شعواء ضد جنود بريطانيين اختبروا الحرب وحققوا الانتصار.
ولكن أمام هذه المشاهد كلها التي تشد القارئ شدا لمتابعة القراءة، وعلى رغم وفرة المصادر التي استعان بها المؤلف لا يسع المرء إلا أن يتذكر ما يقوله نقاد التاريخ، من انه أمام هذه المشاهد، يؤكد هؤلاء، وبإجماع الآراء تقريباً، أن الرواية التاريخية جزء لا يتجزأ من نظرة المؤرخ إليها. أن وجد فيها ما يوافق هواه مجده وأطنب في توصيفه. وأن لم يجد فيها ما يحبه قدمه بصورة مغايرة لا تخلو من صور قد ينفر القارئ منها.
وعلى رغم ذلك فهو كتاب جدير بالقراءة والدراسة، وهو إلى جانب أسلوبه الأدبي البديع المشوق يتضمن معلومات غنية حول تلك الحقبة من الزمن، وما شهدته من أحداث في بقعة من القارة الأفريقية أخذت تستأثر باهتمام الكثيرين حالياً من عرب وأجانب.
في اليوم الأخير من القرن التاسع عشر جلس ولفريد بلانت وهو شاعر راديكالي محب للإسلام، إلى طاولة مكتبه في منزله خارج الإسكندرية، وكتب مرثاه تنقش على قبر هذا القرن جاء فيها: «أقول وداعاً لقرن يمضي، فليرقد بسلام وهدوء، بعد أن عاش في حروب طويلة. وللقرن الجديد لا أبشر بأي شيء سوى أنه سيشهد أفول الإمبراطورية البريطانية، وربما تظهر محلها أمبراطوريات أخرى أكثر سواء منها».
ويضيف ولفريد بلانت:» ربما لن أعيش حتى أرى ذلك اليوم، ولهذا فإن كل ما تقدم سيبدو مسألة بالغة الصغر هنا في مصر حيث الأهرامات تشاهدنا، مثلما شاهدت يوسف، حين كان شاباً قبل نحو أربعة آلاف سنه، وربما في هذه الحديقة ذاتها يتجول ثم ينظر إلى الشمس عند مغيبها وراء هذه الأهرامات، ويتساءل حول المستقبل، كما أفعل الآن في هذا المساء وعلى هذا أقول وداعاً أيها القرن التاسع عشر، وداعاً لكل ما حملته من شرور».
يحق للقارئ أن يتساءل في نهاية قراءته لهذا الكتاب المهم: هل التاريخ يكرر نفسه في أفريقيا اليوم ومن جديد؟
مهما يكن من أمر، ربما لا يتفق القارئ مع ما يقوله المؤلف في مواطن كثيرة من الكتاب، مثل إرجاعه أسباب التخلف والفقر والجهل والفقر في تلك القارة إلى أسباب كانت إلى حد ما بعضاً من دوافع الاستعماريين في القرنيين الثامن عشر والتاسع عشر، غير أنه في نهاية الأمر يبقي مؤلفاً متميزاً للغاية لـدومنيك غرين المولود في لندن والذي تلقي علومه العليا في جامعة أكسفورد حيث حاز شهادة الماجستير في الأدب الإنكليزي، ثم تابع دراسته في جامعة هارفارد ونال شهادة الماجستير في الدراسات اليهودية وله كتاب The double life of Dr., Lopez الذي حظي بترحيب واسع من النقاد، ويقطن حالياً مدينة نيوتن في ولاية ماساتشوسيش في الولايات المتحدة الأميركية وهو متزوج وله بنتان.
صحيفة الحياة اللندنية