إنها نكبة…وليس نكسة
نكسة حزيران صناعه محلية و…مغشوشه
_____________________________________
قال الحفيد لجده، وهما يتفرجان على معركة بين الصقور والغرانيق: “لقد هزمت الغرانيق ياجدي “. فعلق الجد قائلاً:
“الأصح، ياولدي، أنها أبيد ت…”.
لا يمر 5 حزيران، منذ ثلاثين سنة، مروراً عابراً على روحي وذاكرتي. فدائماً أقول سوف تختفي، مع الأيام تلك الرعدة المخيفة التي انتابتنا، ونحن طلاب في الجامعة، لدى مشاهدة طائرات العدو وهي تقصف مطار المزة في دمشق. وأقول سوف، ذات يوم، يختفي الألم المهين بتحقيق انتصار فصيح لا لبس فيه، على إسرائيل.
وكلما مر 5 حزيران… أحاول أن أخترع وصفاً لصاعقة هزيمتنا، وكيف ان الجولان وسيناء والقدس وما تبقى من فلسطين (الضفة الغربية) قد ضاع في ساعات الغبارالاول؟. لم يقصّر الإنشاء العربي باجترارمفردات الذل والمهانة والانكسار والخوف واليأس…إلى آخره في وصف حالتنا. لكنني خلال ثلاثين عاماً لم أستطع العثور على وصف ذلك الإحساس الغامض الحامض لحظة همود الغبار الأخير على جثة الوطن.
اليوم، أمسكت الكتب والمذكرات السياسية والعسكرية، الوثائق والبرقيات، المراجع والصور، وقرأت، في ما يشبه جلد الذات، عبر مشهد الحريق الكبير، وعبر الرمال والرماد وأغنيات النصر الإسرائيلية، ورقصات المجندات في القدس. ورأيت، في استعادة الصور، تيه البلاد في ثياب الجنود المهزومين تلاحقهم الطائرات بالرصاص وهم يموتون عطشاً…قرأت ورأيت واستعدت، فلم أستطع، في كل السطور ومع كل الصور، أن أجد ما أبحث عنه للتعبير عن ذلك الشعور الغامض الحامض الذي عمرة ثلاثون عاماً…لحظة إعلان الهزيمة بكل حجمها، وابتذالها وفداحتها: هزيمة شعوب، وجغرافيات، وزعماء ، وقادة جيوش…هزيمة أمل ووعود وشعارات وأفكار…
والآن…قبل أن أتوقف عند هذه السطور الأخيرة، أزعم أنني وجدت الكلمة المناسبة: “الوَحشَة…” لقد أحسست بغيمة سوداء فوق سطح الارض : عالم موحش، طعام، كلام. صور، كتب، ألوان…لقد كانت الوحشة ذات رنين أسود في الحلق. وكانت تبتلع ما يشيعه عادة دفء الإنسان فيما حوله…فيصبح الموت قريباً، عاديا ، بمفاعيل نقص قيمة الاشياء.
بعد ثلاثين سنة ماالذي يمكن قوله عن الآثار المترتبة على الهزيمة، سوى أننا أصبنا، وإلى أمد طويل، بمرض التطعيم ضد الهزائم؟ وصلنا إلى محوها من الذاكرة، والقبول برسوخها في الواقع؟ للأسف لم تكن الهزيمة حربية، كما تبين فيما بعد ولن يكون بديلها حربياً محضاً. فلكي ينتصر السلاح لا بد من روح الشعوب، وعقل الأمم، وتصميم القيادات…..
النصر، في حالة المتخلفين ، رغبة بالحضاره .
قبل أيام من استشهاده على ضفة قناة السويس، قال الفريق عبد المنعم رياض – رئيس اركان الجيش المصري 1968: “إن شرف القتال يمتد أبعد من الهدف العسكري .إذا خرجنا من هذه الأزمة بحل ديبلوماسي، ولو كان مقبولاً… فإن هذا البلد سيتحول إلى مرتع للسماسرة في النهار، ومربع للغواني في الليل…”.
….وفاتورة حزيران لم تنته بعد،
والوحشة أيضاً !
……………………………
وبعد عشر سنوات من كتابة هذا النص، وفي يوم 5 حزيران، الذي يصادف اليوم، أطلّ على حالنا بأقصى سرعة لارى ماحل بنا…
بأقصى سرعه… ذلك لأن الوقوف على كل ما جرى، لاحقاً، يوقف القلب.