إيران | المفاوضات النووية المقبلة: مَن يطلق صافرة البداية؟
يجادل البعض بأن أمام الأميركيين والإيرانيين فرصة سانحة للوصول إلى «اتفاق أشمل»، بما أن سدّة الرئاسة في كلا البلدين ومؤسّساتهما يشغلها مهندسو «خطّة العمل المشتركة الشاملة». إلّا أن التحدّيات أمام ذلك تبدأ من المعارضة الداخلية الأميركية خصوصاً، حيث يحاجج الصقور اليمينيون، الذين يقود عقلهم السياسي مبدأ حماية مصالح إسرائيل، أمثال جون بولتون ودينيس روس ومارك دوبويتز وغيرهم، بأن الخطّة الأولى التي أنجزها فريق الرئيس الأسبق، باراك أوباما، ضعيفة وقاصرة بذاتها. فهي – بحسب ادعائهم – مليئة بالشوائب التي عزّزت موقع إيران ونفوذها الإقليمي والدولي، بدلاً من تقويض ما كانت عليه قبل عام 2015. وتلك الشوائب هي: بنود الانقضاء (sunset clauses) القصيرة الأمد، وعدم شمولها برنامج الصواريخ الباليستية الإيرانية، واستثمار إيران عائدات رفع العقوبات في زعزعة أمن المنطقة واستقرارها. لذا، يدعو هؤلاء، بايدن وفريقه، إلى استغلال ضغط العقوبات المفروضة على طهران، لإجبارها على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، ومناقشة المواضيع كافّة، في خطّة يطلقون عليها «الأقلّ مقابل الأقلّ». إن دلّ هذا على شيء، فعلى تسليم الصقور اليمينيين بأن بايدن عازم على إنجاز اتفاق نووي جديد مع إيران، الأمر الذي أكّده الأخير عبر سلسلة من التعيينات المتجانسة والمنسجمة، من الخبراء والمخضرمين في سلك الدبلوماسية والسياسات الخارجية: ويليام بيرنز كرئيس لوكالة الاستخبارات المركزية، أنتوني بلينكن وزيراً للخارجية، الجنرال لويد أوستن وزيراً للدفاع، جايك سوليفان مستشاراً للأمن القومي، آفريل هاينز مديرة للاستخبارات الوطنية، روبرت مالي مبعوثاً أميركياً لإيران. وبالعودة إلى السير الذاتية لهذه الأسماء، يتبيّن أن أربعة منها عملت على هندسة الاتفاق النووي والتفاوض حوله، وهي بلينكن وبيرنز وسوليفان ومالي، أمّا الجنرال أوستن فقد كان قائداً للقيادة المركزية الأميركية «سنتكوم».
ذعرٌ إسرائيلي
المخاوف التي يعبّر عنها الصقور اليمينيون في كتاباتهم وتصريحاتهم، ليست إلّا انعكاساً لأخرى موجودة لدى حليفتهم الأولى في الشرق الأوسط إسرائيل. ففي مقال مشترك له مع يوسي كلاين – حالفي في مجلّة «ذي أتلانتك»، عبّر مايكل أورين، عضو «الكنيست» الحالي وسفير إسرائيل السابق لدى واشنطن، عن خوفه من نيّة بايدن العودة إلى المفاوضات مع إيران حول البرنامج النووي، مشيراً إلى قصور الاتفاق وانعدام جدواه لعدم تطرّقه إلى قدرة طهران التسلّحية، سواء بالصواريخ الباليستية القادرة على حمل رؤوس نووية، أو القنابل النووية ذاتها. ودعا إلى تضمين أيّ اتفاق جديد مسألة الصواريخ، ووضع حلّ نهائي لقدرة إيران النووية، وتمديد مدّة بنود الانقضاء من سنة 2024 إلى سنة 2040 أو 2045. وذهب إلى حدّ المطالبة بالتنسيق بين الولايات المتحدة ودول «اتفاقية آبراهام»، مُبدياً انزعاج تل أبيب ممّا اعتبرته «خيانة وطعناً في الظهر» حينها. الأمر نفسه حذّر منه، أيضاً، رئيس الأركان الإسرائيلي، أفيف كوخافي، الذي قال في خطاب له خلال المؤتمر السنوي لـ«معهد دراسات الأمن القومي» إن «أيّ اتفاق يشبه اتفاق عام 2015، هو اتفاق سيّئ على الصعيدين الاستراتيجي و العملاني»، مضيفاً أن «الضغط على إيران يجب أن يستمرّ، يجب ألّا تمتلك القدرة على تطوير قنبلة نووية».
لم تُخْفِ إدارة بايدن نيّتها طمأنة إسرائيل، إذ أعلن مسؤولون إسرائيليون أن اتصالاً جرى بين سوليفان ونظيره مائير بن شبات، ناقشا فيه ملفّات عدّة أحدها إيران. أمّا عن سبب تعيين بايدن، ويليام بيرنز، اللاعب الأساسي في المفاوضات السرّية في مسقط، والتي سبقت الاتفاق النووي النهائي مع إيران، فقد يكون لضبط الأنشطة التجسّسية والتخريبية القادمة التي قد يقوم بها «الموساد» داخل إيران، والتي كانت قد هدّدت، في السنوات الماضية، الاتفاق الدبلوماسي الذي جهد بيرنز وسوليفان في التوصّل إليه، وأيضاً لإفساح المجال أمام العمل الدبلوماسي الذي «يحتاج إلى وقت طويل قبل التوصّل إلى اتفاق جديد»، وفق بلينكن.
مبادرة «مجتمع هرمز»
قد لا يبقى باب التفاوض مع إيران مشرّعاً لوقت طويل، فنتائج الانتخابات الإيرانية المقبلة، في 18 حزيران/ يونيو 2021، قد تزلج الباب أمام أيّ حوار قادم مع الأميركيين، أو أقلّه قد تجعل من التفاوض أمراً شاقّاً للغاية في ما لو فاز أحد المحافظين بمنصب رئيس الجمهورية الإسلامية. وهذا ما ذكره بيرنز في مذكّراته «القناة الخلفية»، مقارِناً بين سعيد جليلي رئيس الوفد التفاوضي في عهد أحمدي نجاد، وعباس عراقجي ومجيد تخت روانجي في عهد الرئيس حسن روحاني. وقال: «أنهى جليلي تعليقاته بتسليم «ورقة غير رسمية None-paper» إيرانية. كانت النسخة الإنكليزية تحمل، ولسوءٍ في الترجمة، عنوان «ورقة لا شيء none paper»، تَبيّن لاحقاً أنّه (أي العنوان) وصفٌ مناسب لمضمونها. نظرنا و(خافيير) سولانا إليها بسرعة، عندها زحر زميلي الفرنسي، وتمتم: «هراء»، ما جعل جليلي يبدو مذهولاً إلى حدٍّ ما… كان (جليلي) من المؤمنين الحقيقيين بالثورة الإسلامية، كوّن قناعاته من خلال تجربة مريرة، إذ أصيب في القتال على الجبهة العراقية في الثمانينيات، وفقد جزءاً من ساقه اليمنى فبات يسير بعرج واضح. كما الكثير من أبناء جيله، تعلّم من صعوبة الخنادق أن إيران لا تستطيع الوثوق بأحد ولا يمكنها سوى الاعتماد على نفسها». وأضاف بيرنز: «ترأّس الوفد الإيراني هذه المرة نائبا وزير الخارجية جواد ظريف، مجيد تخت روانجي وعباس عراقجي. كلاهما كانا وطنيين إيرانيين قويين، مشكّكَين في التعامل مع الأميركيين وعنيدَين في مناقشة نقاطهم. اكتشفنا أنه يمكن أيضاً أن يكونا مبدعَين في حلّ المشكلات». الاقتباس أعلاه ليس إلّا القليل ممّا ينتظر بايدن وفريقه إذا ما وقفوا من دون تعبيد الطريق أمام الفريق الإصلاحي في إيران، المتمثّل بروحاني، عبر منحه تقدّماً أو إنجازاً ما في الملف النووي. أفضل مَن عبّر عن ذلك، هو وزير الخارجية محمد جواد ظريف، في مقال له في مجلّة «فورين أفيرز»، قال فيه إنه «إذا كانت الإدارة الأميركية الجديدة تأمل في تغيير المسار الحالي، فعليها أن تُحدث تغييراً في مسارها على الفور». وانتقل إلى تحديد شروط الجمهورية، للعودة إلى الاتفاق، بالتالي:
1 – تبدأ الإدارة بإزالة مفاعيل جميع العقوبات المفروضة أو المعاد فرضها أو المعاد تسميتها منذ تولّي ترامب منصبه، بشكل كامل.
2 – ستلغي إيران جميع الإجراءات التصحيحية التي اتخذتها في أعقاب انسحاب ترامب من الاتفاق النووي.
3 – بعدها يقرّر الموقّعون الآخرون ما إذا كان ينبغي السماح للولايات المتحدة باستعادة مقعدها على طاولة المفاوضات التي تخلّت عنها في عام 2018.
ظريف حذّر أيضاً من أن العودة إلى طاولة المفاوضات ستكون عرضة للخطر، في ما لو طالبت واشنطن أو حلفاؤها في الاتحاد الأوروبي بفرض شروط جديدة على الاتفاق، الذي تمّ التوصل إليه بعناية خلال سنوات من المفاوضات.
أما في ما يخصّ ملفّ الأسلحة الإيرانية والصواريخ الباليستية، والذي سمّاه «السياسات الدفاعية والإقليمية»، فقد جاء موقفه صارماً وحازماً، بألّا مجال للنقاش فيها مع الأميركيين أو الأوروبيين أو «الأجانب» قطعاً، وبأن إيران قد ضحّت مسبقاً لإنجاح الاتفاق عبر موافقتها على فرض قيود مدّتها خمس وثماني سنوات على مشتريات الدفاع والصواريخ على التوالي، وتلك التضحيات لا يمكن التغاضي عنها أبداً، لا اليوم و لا حتى لاحقاً. لكن ظريف لم يَسدّ السبل كافة بوجه هذا الملف، بل ربطه بالوجود الأميركي في المنطقة، وترك له منفذاً ملحوظاً في قوله إن هذا موضوع تناقشه إيران مع دول «مجتمع هرمز»، غامزاً من قناة الرئيس روحاني ورسالته الأخيرة في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، والتي دعا فيها تلك الدول إلى تسوية نزاعاتها بالطرق السلمية، وتجنّب المشاركة في الائتلافات أو التحالفات ضدّ بعضها البعض، واحترام الحقوق والمصالح والمخاوف الأمنية الوطنية المشروعة للجميع. رمى ظريف الكرة في ملعب بايدن، في انتظار ركلته الافتتاحية الأولى.
مبادرة ماكرون وخطّة النقاط الأربع
في ظلّ كلّ هذا الأخذ والرد، قد تكون الوثيقة، أو خطّة النقاط الأربع التي جاءت نتيجة أيّام من دبلوماسية مكوكية قام بها الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة، بهدف نزع فتيل التوتّر بين طهران وواشنطن، في أواخر أيلول/ سبتمبر 2019، منطلقاً لأيّ تفاوض جديد قد يحصل بين الإدارتين. تنصّ هذه المبادرة على التالي:
1 – تتعهّد إيران بأن لا تحوز سلاحاً نووياً أبداً.
2 – تمتثل إيران لتعهّداتها والتزاماتها بالكامل، وتقبل التفاوض على إطار عمل طويل الأمد حول أنشطتها النووية.
3 – تمتنع إيران عن أيّ اعتداء، و تسعى إلى سلام واحترام حقيقيَّين في المنطقة من خلال المفاوضات.
4 – ترفع الولايات المتحدة العقوبات كافّة المعاد فرضها، منذ عام 2017، ويكون لإيران القدرة الكاملة على تصدير نفطها واستخدام عائداته بحُرية.
وعلى الرغم من عدم ذكر برنامج الصواريخ الباليستية الإيراني على وجه التحديد في نصّ المبادرة، جاء تأويل النقطة الثانية على لسان مسؤولين فرنسيين بأن اللغة المتعلّقة بدور طهران الإقليمي مفهومة من قِبَل جميع الأطراف، وهي تعني أن الصواريخ الباليستية ستكون جزءاً من المفاوضات. وعلّق مسؤول فرنسي مطّلع على المحادثات، بقوله: «كان واضحاً للجميع أن المفاوضات بشأن القضايا الإقليمية ستشمل بالضرورة برنامجهم للصواريخ الباليستية».
لم تبصر معاهدة ماكرون النور بعد رفضِ ترامب تلبية شرط روحاني، بناءً على تعليمات المرشد السيد علي خامنئي بأن يُعلن ترامب رفع العقوبات عن إيران، قبل إجراء الاتصال المفترض بينهما في نيويورك. لكن يبقى السؤال عمّا إذا كانت هي المبادرة التي ستكون منها الانطلاقة المقبلة نحو الاتفاق الأشمل، أو أنّ ثمّة مسعى آخر سيتشكّل عبر إحدى الدول العربية أو مبادرة دوَل هرمز؟
صحيفة الأخبار اللبنانية