إيران تصعّد الضغوط بـ«خطوة ثالثة»
اتخذت إيران الخطوة الثالثة في إطار سياسة التخفّف من الالتزامات بالاتفاق النووي، حينما أدت معارضة الولايات المتحدة للاقتراح الفرنسي بتعليق حظر مبيعات النفط الإيراني بصورة موقتة، إلى إلقاء ظلال من الشكّ على قدرة الأوروبيين على تلبية المطالب الإيرانية. وأعلن الناطق باسم وكالة الطاقة الذرية الإيرانية، بهروز كمالوندي، أول من أمس، التفاصيل التقنية للخطوة التي كان الرئيس الإيراني، حسن روحاني، أصدر الأسبوع الماضي أمراً بتنفيذها. وتحدث كمالوندي عن أربع خطوات جديدة تتمثّل، بدايةً، بضخ الغاز في أجهزة الطرد المركزي المتطورة من طراز «اي آر 6 إس»، وسلسلة «اي آر 6» المكوّنة من 20 جهازاً، فضلاً عن تشغيل سلسلة «اي آر 4» المكوّنة بدورها من 20 جهازاً، وإنتاج المواد المخصبة بواسطة المكائن الجديدة، مشيراً إلى أن بلاده لا تعتزم، في الوقت الراهن، وضع قيود على عمليات الإشراف التي تقوم بها الوكالة الدولية للطاقة الذرية بموجب الاتفاق.
ورداً على عدم التزام الدول الأوروبية الموقِّعة على الاتفاق بتعهداتها الواردة فيه، أقدمت إيران، على مدى الأيام الـ120 الماضية، على خفض التزاماتها خطوة بخطوة. في الخطوة الأولى، أوقفت مبيعات اليورانيوم والمياه الثقيلة لمفاعلاتها، ما أدى إلى تخطّي احتياطي اليورانيوم المخصّب عتبة الـ300 كيلوغرام المحددة بموجب الاتفاق. أما الخطوة الثانية، فتمثلت في زيادة نسبة تخصيب اليورانيوم من 3.67% المسموح بها وفق الاتفاق، إلى 4.5%. ورأى وزير الدفاع الأميركي، مارك إسبر، في سياسة تقليص إيران التزاماتها، انتهاكاً للاتفاق النووي، واستمراراً للجهود الإيرانية لخرق معاهدة حظر الانتشار النووي، بينما دعت وزيرة الدفاع الفرنسية، فلورنس بارلي، إيران إلى مواصلة التزاماتها بموجب الاتفاق.
أما الخطوة الثالثة التي تزامنت مع زيارة يقوم بها المدير العام بالنيابة للوكالة الدولية للطاقة الذرية، كورنيل فيروتا، لطهران، فتتعلّق، بحسب مسؤولين إيرانيين، برفع القيود عن الأبحاث والتطوير (R&D)، وتُعدُّ رمزية للضغط على الأوروبيين، كونها لن تؤثّر بشكل جاد في الاتفاق. وبينما كان البعض يتوقّع أن تتخذ إيران إجراءات أكثر تشدّداً، مثل التخصيب بنسبة 20%، فضّلت الأخيرة التحرّك بشكل مدروس في المرحلة الراهنة. من هنا، فإن توسيع النشاطات في مجال الأبحاث وتطوير أنواع أجهزة الطرد المركزي، مهما كان جاداً، فليس بمقدوره في الحقل العملياتي للصناعة النووية، إثارة قلق بالغ لدى الغربيين على الأمد المتوسط.
العجز الأوروبي
على رغم أن إيران تسعى للإفادة من خفضها التدريجي لالتزاماتها، كوسيلة للضغط على المفاوض الأوروبي، بيدَ أن ثمة شكوكاً كبيرة حول قدرة الأوروبيين وجدوى المحادثات معهم. وعلى مدى الأشهر الـ16 الأخيرة التي تلت انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي، لم يستطع الأوروبيون التعويض عن الخسائر التي مُنيت بها طهران على أرض الواقع. ومع ذلك، فإنهم كانوا يتوقّعون منها أن تبقى ملتزمة بالاتفاق كما هو. فآلية التبادل المالي المعروفة بـ«إنستكس»، والتي كان مقرراً أن تفتح قناة للتبادل المالي مع إيران، لم تكن مجدية لحدّ الآن. أما الاقتراح الأخير للرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بمنح خط ائتماني بقيمة 15 مليار دولار لبيع النفط الإيراني، فلم يستطع، لغاية الآن، تحقيق أي خرق. والسبب الرئيس وراء ذلك، يكمن في معارضة واشنطن لأي تعليق للعقوبات، أو منح إعفاءات لشراء النفط الإيراني، وهو الأمر الذي أكده الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أخيراً.
وعليه، فإن الكثيرين يذهبون إلى الاعتقاد بأن المواقف المستقلة لباريس هي استعراض استراتيجي أكثر منها مواقف حقيقية، إذ أظهرت هذه الأخيرة أنها تتبع واشنطن في القرارات الاستراتيجية، وأن خريطة الطريق الفرنسية الجديدة إنما وُضعت بهدف رفع العتب إزاء الالتزامات المنصوص عليها في الاتفاق النووي، وكذلك في محاولة لاحتواء إيران. ولم تكن إشارة ماكرون، أخيراً، إلى أن بلاده غير راغبة في التضحية بمصالحها مع الأميركيين من أجل مصالح طهران، إلا دليلاً على ذلك.
الرئيس الأميركي، وفي ضوء معارضته للخطة الفرنسية، يكون قد وأدها عملياً في المهد. وعلى رغم أن سياسة «الضغوط القصوى» التي مارستها الولايات المتحدة منذ انسحابها من الاتفاق تسببت بمصاعب وضائقة للاقتصاد الإيراني، لكن المؤشرات تفيد بأن قسماً رئيساً من الطاقة الناتجة من ضغوط العقوبات، قد تَحرّر. وعلى النقيض مما كان يظنه ترامب بدايةً، فإن الاقتصاد الإيراني لم ينهر، لا بل تجاوز تقلّبات العام المنصرم، وبات يشهد اليوم نوعاً من الاستقرار في هذا المجال.
من جهة أخرى، فإن الجمهورية الإسلامية، وفي ظل إجراءات مثل خفض التزاماتها بموجب الاتفاق النووي، وكذلك إسقاط الطائرة المسيّرة الأميركية، واحتجاز ناقلة النفط البريطانية، أظهرت أنها لن تتخذ موقفاً انفعالياً في مقابل الضغوط. وعلى رغم أن سياسة «الضغوط القصوى» لم تعط النتائج المستعجلة التي كانت تتوخاها واشنطن، لا يبدو أن الأخيرة ستتخلّى عن هذه السياسة في المستقبل القريب. فإعطاء ترامب الضوء الاخضر لخطة ماكرون في البداية، ومن ثم تغيير موقفه لاحقاً، كان ناجماً قبل أي شيء عن معارضة المسؤولين الإيرانيين للقاءٍ يجمع روحاني وترامب قبل رفع العقوبات.
المواجهة بين إيران وأميركا بلغت مرحلة «برزخية»؛ فالجانبان لا يريدان السلام ولا الحرب. وكل طرف يريد رفع ثمن الوضع السائد للطرف الآخر، على أمل أن يحصل على تنازلات منه. وفي هذا الإطار، فإن ما يضعف ويتقوّض ويفقد مصداقيته شيئاً فشيئاً، هو الاتفاق النووي.
صحيفة الأخبار اللبنانية