إيران ـ السعودية: ساحات إستنزاف مفتوحة (جوني منير)
جوني منير
"كان رئيس "جبهة النضال الوطني" النائب وليد جنبلاط محقاً عندما اعترف، ولو انه تأخر كثيراً بذلك، بـ"أننا لا شيء في النزاع الحاصل في سوريا ولا تأثير لنا"، ومبرراً استدارته الجديدة بأنها آتية من الواقع الموجود. وكان يمكن هذا الإقتناع لو اعتمد مع بداية الثورة في سوريا أن يحمي الساحة اللبنانية اكثر، وأن يزيد من حصانتها بدل إغراقها في مشكلات هائلة ومؤذية.
ومناسبة الكلام ليس سببه تأجيل انعقاد مؤتمر "جنيف -2" وهو في كلّ الحالات ما كانت تتوقعه مختلف الاوساط الديبلوماسية ليقينها بأنّ الظروف الميدانية لم تنضج في اتجاه فتح مسار المفاوضات، بل للهمسات المرعبة التي بدأت تتسلل الى الكواليس الديبلوماسية.
وفي هذه الوشوشات انّ ابقاء الساحة السورية مشتعلة سيؤدي الى استنزاف كل القوى الاقليمية التي انزلقت فيها. إيران من جهة ومعها كلّ تركيبتها، والسعودية وقطر من جهة ثانية ومعهما امتداداتهما الواسعة في المنطقة.
ولأنّ قدرات هاتين الجهتين ما تزال قوية بما فيه الكفاية، فإنّ التوقعات تذهب في اتجاه حرب طويلة في سوريا، لا بل طويلة جداً، هذا بمعزل عن التفاهم السياسي الذي يمكن أن يحصل ويكرّس مدى النفوذ الايراني في الواقعين السوري واللبناني.
ولم تنتبه السعودية الى انّ الكلام الانتقادي العنيف الذي كان يكيله البيت الابيض بمختلف ساكنيه الى ايران، انما كان يشكل ستاراً لنيات مختلفة. وهكذا لم تسعَ واشنطن مثلاً الى استثمار ما سمي "الثورة الخضراء" التي ظهرت في ايران مع الانتخابات الرئاسية التي أفضت الى التجديد لأحمدي نجاد.
يومها خاض "الاصلاحيون" معركة عنيفة ضدّ حكم النظام المتشدّد انفجرت في بعض شوارع طهران. صحيح انّ السلطات الايرانية نجحت في استيعاب حركة هؤلاء بعد صخب في الشارع لأيام عدة، الّا انّ الصحيح اكثر هو انّ الولايات المتحدة الاميركية لم تفعل شيئاً لاستثمار ما حصل، او للتضييق اكثر على السلطات الايرانية ما يمنح انصار "الثورة الخضراء" شيئاً من الدفع المعنوي على الاقل. وعلى رغم الدلالات العميقة لتلك الحادثة، الّا انّ احداً لم يأخذ من دروسها.
كذلك لم يكن مفهوماً إحجام واشنطن عن تأمين دعم فعلي لمنظمة "مجاهدي خلق" اكثر التنظيمات الايرانية المعارضة عداء لنظام الملالي واكبرها على الاطلاق. وحتى في عزّ استهداف "المارينز" في العراق بقي الهجوم الاميركي على إيران محكوماً بسقف محدّد.
إيران بدورها لم تذهب بعيداً في نزاعها مع السعودية الى درجة اجتياز الخطوط الحمر الاميركية. ففي البحرين لامت طهران المجموعة الشيعية حين حاولت الاقتراب من القصر الملكي وأبقت تململ شيعة السعودية تحت سقف مضبوط جداً. المهم انّ اقرار واشنطن بالنفوذ الايراني على طول خط الهلال الشيعي شيء، واستنزاف قدراتها في سوريا شيء آخر.
ففي سوريا مجموعات كبيرة من المتطرّفين الاسلاميين (يشكل الاردنيون والفلسطينيون والسعوديون القسم الاكبر منهم) لا يجب اعادتها الى بلادها منعاً لثورات أُخرى ومن نوع آخر. كذلك الامر بالنسبة الى الاسلاميين الذين قدموا من اوروبا ودول العالم الغربي. فلم لا يشكل هؤلاء القوة القادرة على استنزاف طهران؟
وتحت وطأة هذا النزاع يمكن انضاج الخريطة الجديدة لسوريا والتي ستشبه الى حدّ ما واقع العراق الفيدرالي في المرحلة الاولى. وها هم اكراد سوريا يجتاحون القرى والمناطق للتواصل مع اكراد العراق وتحت عنوان محاربة "داعش" والتنظيمات المتطرّفة. وفي المقابل بدأ النظام معركة الزبداني تحضيراً لمعركة القلمون لاحقاً وفي استكمال لترتيب الواقع الجغرافي الجديد الناشئ من مرحلة الحرب.
في المقابل تبدو السعودية في قتال تراجعي لا يمكنها الانسحاب منه او الاقرار بالنتائج التي افضت اليه حتى الآن، اي الاقرار بخسارة نفوذها الكبير في الهلال الشيعي الذي ارتسم.
صحيح انّ الرياض غارقة في النزاع المصري الداخلي والذي يستنزف الجزء الاكبر من قدراتها المالية، الّا انها تبدو غير قادرة على التراجع في مصر نظراً لانعكاسات ذلك على الداخل السعودي.
ومن هنا سخطها الكبير على قطر وتركيا ايضاً. فالتحضيرات جارية لجعل سيناء ساحة المعركة المرتقبة بين الجيش المصري و"الاخوان المسلمين" و"حماس"، ساحة استنزاف اضافية تجبر السعودية، وايضاً حماس وداعميها، على الدخول بثقلهم فيها احتواء لتأثيراتها. كلّ ذلك فيما ايران التي استعادت بعض علاقاتها بحماس لا تبدو بعيدة عن رعاية هجوم الحوثيّين على مواقع السلفيين في اليمن على مقربة من الحدود مع المملكة.
وسط هذه الصورة يبدو لبنان عالقاً ومشلولَ الارادة. فهنالك من يريد له أن يساهم في معركة تعديل موازين القوى في منطقة الهلال الشيعي، فترتفع السخونة في شمال لبنان، وتتجمّد الحكومة في المراوحة القاتلة حيث سمع الرئيس المكلف تمام سلام من الرئيس سعد الحريري، قراراً واضحاً بعدم الاعتذار أيّاً تكن الظروف.
وقيل إنّ وزير الخارجية السعودية الامير سعود الفيصل طلب من نظيره الاميركي جون كيري مساعدة بلاده على تطويق حزب الله في لبنان على الاقل، فيما كان جواب كيري حمّال وجوه: لن ندع حزب الله يسيطر على لبنان. وما بين محاصرة حزب الله ومنعه من السيطرة فارق كبير، لا بل مسافة شاسعة.
وقيل ايضاً إنّ كيري ألح امام المسؤولين السعوديين على عدم منح حزب الله بطاقة دعوة الى بسط نفوذه على لبنان من خلال المساهمة في رفع درجة السخونة فيه وإسقاط الاستقرار الهش الذي يعيشه.
ذلك انّ إدخال لبنان كساحة رديفة الى ساحات الاستنزاف التي سترفع من سقف المواجهة وستشعل المنطقة، سيؤدي بالتأكيد الى تشليعه وتفتيته نهائياً وليس الى تعديل موازين القوى في سوريا أبداً، وهو ما اراد الاشارة اليه جنبلاط بقوله "إننا لا شيء في هذا النزاع الكبير".