ابتسامات القرن التاسع عشر

بدأ بحملة إبراهيم باشا إلى بلاد الشام (1832)، بما حملته بين أعطافها من وعد تاريخي بالتحرر وولوج العصر من بوابة الوطنية وأسس المواطَنة والتحديث الحقوقي وامتلاك بعض من المبادرة التنموية. بقيت ابتسامات مفردة لقادة عسكريين، رابضة تحت هودج القافلة المندفعة في عسكريتها وحربيتها، والمتعثرة في خياراتها التاريخية وأطواق التغرير بها، وحبال نجاتها. كانت انفراجاً لطيفاً في زاويتي الشفتين، ظهرت تحت شوارب كثة، تعقفهم الأصماغ إلى الأعلى. ابتسم!! لكن حذاري إظهار الغبطة التامة، ابتسم!! ها هي رياح التغيير تملأ أشرعة سفن التاريخ التي اختارت التقدم فوق المياه المالحة والرمل الحار. أُفشلت الحملة العسكرية وخياراتها الاجتماعية، لكنها فتحت البوابة العثمانية على ضرورات الإصلاح، فأنتجت خط شريف همايوني 1856 وتبعته بسلسلة من المبادرات الإصلاحية، لتصل ذروتها بإعلان الدستور 1876.

بدت الابتسامات محايدة، لا علاقة لها البتة بأنياب الليث وتأويلاتها. أتى بعضها من فائض ذكورية، لمّا تزل على قناعاتها أن الابتسام من مظاهر اللين والأنوثة، لكنها ابتسامات على كل حال، تحمل بعضاً من التفاؤل، بعد الانسكاب المتأخر لحبر الشعوب على مدونات التاريخ، واختلاسهم النظرات إلى حركته من نوافذ الأمل.

***
حملت أجيال عربية في دفاترها وفي أفواهها المطْبقة، بشفاهها الجافة المحروقة بلفائف التبغ الثقيل، السؤال الاستهلالي المنقول من القرن المنصرم: لماذا تقدمت أوروبا ولم نتقدم نحن؟ قبل أن يتبعونه بسؤال آخر أتت به التحولات في مسارات الزمن التاريخي: لماذا تتوحّد أوروبا ونتفتت نحن؟ مفترضين، ببراءة الشعوب المنهكة، الخارجة من دساكر الفلاحين ومواويل الفلاحات حين يقعدن على مشارف السفوح ليعاتبن السماء على جروحهن الأزلية، أن التقدم خيار تفضيل بسمات ذاتية، تأخذ به الشعوب المغلوبة وتُنحِّي سواه، كما يغرف العِطاش من خابية الماء القراح ويتنحون عن رامة الماء الأجاج، مغافلين أنه كان شرطاً لتقدم أوروبا ألاّ نتقدم نحن.

الطريق لاجتراح إجابات يقينية طويل وشائك. أهو الحكم العثماني الطويل؟ الاستعمار الإمبريالي؟ الاستعمار الاستيطاني الصهيوني؟ تقليدية البنى الاجتماعية والثقافية؟ عجز الأنظمة التي تعاقبت على الحكم عن تجاوز الآثار الاستعمارية؟ الاكتشافات النفطية والأنظمة التي تحرسها؟ أضحوا يحنُّون للأبجدية الهيروغليفية، وربما الكثيرون مثلهم، حينما لم يكن أحد يقرأ من دون أن يفهم، بعد أن قررت البيروقراطية الفرعونية التعبير عن الكلمات برسوم.

***
خرجت الشعوب العربية من التاريخ من زمن بعيد. قد يكون السقوط الرسمي للإمبراطورية العباسية تحت جحافل الهجوم الحربي لقبائل المغول (1258) مؤشراً معتمّداً، لكنه بقي مؤشراً تأسس على اكتمال الواقعة وتدشينها بفعل عسكري يقارب الإقصاء الحاسم. نشأت قبله سلسلة من الإمارات والممالك في استقلال عن الدولة المركزية، ومعادية لها، وهي مظهر من المظاهر الدالة على عجز الإمبراطورية وشيخوختها: الدولة الطولونية والإخشيدية والفاطمية في مصر، والأيوبية في مصر والشام.. وتوالدت بعده بشكل شرعي الإمارات السلجوقية والبويهية والكردية والعربية، لتستولي على الفراغ المهول الذي أبقاه تحطم أضلاع الإمبراطورية وتفتت ذراعيها. وحلت في البلاد سلالات حربية جديدة باتت تعرف بالمماليك، انبثقت من أطراف البلاد ومن متن الجيوش المركزية التي حافظت على قوة التنظيم والعصبية والمصلحة، توزعت البلاد وتقاسمتها كعقارات لثلاثمئة عام، حتى اكتملت عناصر المشروع العثماني، ليقتحم، مفْصحاً عن تفاوت حربي مهول بين عضلات أمراء المماليك وفروسيتهم، والتنظيم الحربي الجديد، بقوته النارية وتنظيمه ووضوح تطلعاته.

ثبتت فترة الحكم العثماني نمطاً من الاستقرار النسبي، رغم ما هزها من حركات احتجاجية (“قومات” أو “وثْبات”)…
إلا أن السلطة المحلية، وبدعم من السلطة المركزية، كانت تعود وتتغلب عليها وتحبطها، مستخدمة القوة الحربية المفرطة، والتناقضات بين الحوامل الاجتماعية للاحتجاجات، والتوازنات بين مصالح الدول الأوروبية. بدأت هذه تتضح كتعبير عن مصالح الرأسمالية التجارية، وتمكنت من إيجاد طريق لها يخترق إمارات السلطنة، بوسائل طغت عليها القوة السِلعية والمالية، وأنماط من التبادل التجاري غير المتكافئ، طرفه الخامات الطبيعية والسلع ذات الخصائص المحلية مقابل السلع المصنعة بأكلاف أقل وجودة أعلى من مثيلاتها المحلية، وبعض المواد الخام غير المتوفرة، كالحديد والزنك والفحم الحجري والسكر.. لتنتقل إلى تثبيت أنماط من الامتيازات الحقوقية والتجارية، وفرض أشكال من الإصلاحات على البنى العثمانية.

***
غادرت الابتسامات كنف فرديتها وتحولت رويداً إلى ابتسامات جماعية.. تراها في حزمة من الصور الفوتوغرافية لمجموعة من الشبان والرجال الحالمين، جمعتهم منظمات وجمعيات ومؤتمرات. جمعية الإخاء العربي – العثماني (1908)، المنتدى الأدبي (1909)، جمعية العربية الفتاة (1911)، جمعية العهد (1913)، المؤتمر العربي الأول المنعقد في باريس (1913)…

ظهر الرجال في الصور الفوتوغرافية المعتمة متلاصقين، كأنهم يحتمون ببعضهم، ويخشون تفلت أحدهم أو اصطياده الماكر من الأنظمة التي تحاصرهم كسيل، مأخوذين بشفاعة شعوب تدور بيأس حول نفسها، قبل أن ترميها هندسة المشاريع الاستعمارية إلى قيعان الهاويات. مسارات بدت كومض، لا تكاد تضيء حتى تنطفئ، كأنها أضواء لشاخصات مرورية لجوجة.

عملوا بدأب على قراءة الوقائع، واستنباط الحلول التي لم تبارح إطار الإصلاحات الضرورية للنظام العثماني، بعد أن باتوا يلمسون ترنحه، بافتقاده لمستعمراته البلقانية والإفريقية، وهزائمه العسكرية المتوالية، والإملاءات الاقتصادية التي تفرضها الدول الأوروبية، وبعد شعورهم بتهميشهم القومي وإفقارهم… لكن كل مقارباتهم ذهبت سدى، لم يتمكنوا من إنجاز أي فعل يقحمهم مساحات التاريخ الشاغرة. أعادتنا الإمبريالية البريطانية إلى التاريخ من بدايات القرن العشرين من جديد، ولكنها أعادتنا بشروطها لا بشروط وأحلام الشعوب المغلوبة في المشرق العربي. تبين لها أن الأمير الذي ما انفكتْ تحاوره وتفاوضه وتقنعه، وهو شريف منطقة مكة، لا يملك قوة ولا نفوذاً، وأنه طموح أكثر مما يتوجب من تابع مستقبلي، لا يتوقف عن طلب المال والسلاح والمشورة، وعاجز عن بسط نفوذه بضعة كيلومترات خارج المرتسم الذي حددته له السلطة العثمانية.

ولكنه طموح، يقول الوشاة المتسربلون في أزياء بحّاثة ومستشرقين وجغرافيين وطوبوغرافيين وعسكريين. الطموح وحده لا يصنع ممالك وإمارات. يأتيهم الرد الحاسم من المركزين المعتمدين لجيوش الشرق الملكية البريطانية في مصر والهند… هذا الأمير حالم كأي بدوي، يعاوده من حين لآخر خفق دم الأسلاف في أوردته، جهول أنّ لتحقق الأحلام حزمة من العناصر تبدأ من القوة المادية، والبصيرة والجهوزية التي تقبض على مسار التحقق.

***
تسقط الأنظمة في كل مكان على وجه المعمورة، أو تتبدّل وتتحوّل، بينما لا تتبدل الأنظمة هنا، وكأن الرقيات الميتافيزيقية قد طوقتها لتحرسها كسوار من الفولاذ. تغدو مجازفة لها أثمانها السياسية – النفسية إن كُتِب: أمست مواجهة الاستعمار أهون من مواجهة أتباعه.

تُرى، أكانت عزيمة الشعوب أقل مما تقتضيه دفعة هذه العربة الاصطلاحية التي أسميت بتقتير لغوي يغفل وجهتها وركابها وقوة خيولها: عربة التاريخ.
يريدون الصراخ في البراري “يا خلق، يا ناس، يا أهل الله، ما هو لغز هذه الأنظمة التي لا تتغير إلا باقتحام عسكري خارجي يحرق الأخضر واليابس ويبدِّد ما تبقى من أهلها”. يشعر الكثيرون أنهم ارتكبوا ما يذكرهم بالمعاصي الإلهية حينما طالبوا بالحرية المقننة، كما هي مقننة من زمان طويل حفنات السكر والأرز، أو بتعديلات ظنوها ضرورية، لأحذية السلطة وبعض من جواربها، كناية عن مظهرها الخارجي والداخلي.

لم يعد الكثيرون يترقبون عربة التاريخ التي ابتعدت عن طريقها أو ضلته، ينتظرون شفاعة هدير متقطع لـ”بوسطة” مهلهلة يطالبهم سائقها من نافذته المفتوحة بتلك العبارة المكرورة “دفشة يا شباب”. يرمون حقائبهم أرضاً، ويندفعون بأذرعهم نحو حديدها الصدئ، منتظرين زفرة من رئة محركها وإقلاعها من جديد إلى حيث روابي تطل على سفح الاستبداد والقهر… بآمال متجددة، ورثوا خذلانها من قرون.

صحيفة السفير اللبنانية ( السفير العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى