نوافذ

ابتسامة ، من دون أل تعريف

اليمامة كوسى

في مشفى الأطفال الجامعي وبعد انتهاء درسنا السريري في القاعة الخارجية؛ اتّجهنا كعادتنا إلى إحدى الغرف في شعبة الأمراض العامّة في الطابق الثالث لأجل أن نفحص المرضى ونطّلعَ على الحالات المرضية المختلفة المتواجدة هناك..

وبينما كان أحد زملائي يسأل والدة الطفل الذي وقفنا بجوار سريره إن كانت حالته قد تكررت سابقاً أم لا؛ لفتت انتباهي طفلة في السرير الذي في أقصى الغرفة وهي ترمقنا من بعيد.

تبادلتُ معها ابتسامةً عن بعد ولم أشعر بنفسي إلا وقد تركتُ زملائي وذهبت إليها وكأنّ هناك شيئاً ما خفيّاً يشدّني إليها.

كانت تجلسُ على السرير وقد أنزلت قدميها النحيلتين عنه وأسدلت يديها على حافته بجلسة تنمّ عن هدوء شديد.

قلتُ لها بتوددّ: ما كُلّ هذه اللطافة!

ابتسمت وهي تتفحّص وجهي بعينيها الجميلتين.

قلت: لقد حان دورك الآن، أخبريني ما اسمك؟

قالت: اليمامة..

علا وجهي مزيج من البهجة والاستغراب الشديدين.. قلت:

أتعلمين أن اسمي اليمامة أيضاً! …ومع أل التعريف!!

قابلتني بابتسامتها الخجولةِ ذاتها ولكنها كانت هنا أعذب وأجمل.

كان لدي فضول لأعرف من أطلق عليها الاسم لا أعلم لماذا، سألتها

فقالت: أبي.

قلت لها: أتعلمين .. وأنا كذلك أبي سمّاني!

لمعت عيناها بفرح والابتسامة الودودة لا تزال مرتسمة على محيّاها.

سألتها: كم عمرك؟

قالت: اثنا عشر عاماً.

قلت: إذاً أنتِ في الصف السادس؟ أليس كذلك؟

صمتتْ..

تكدّر وجهها الجميل وهمدت فيه الابتسامة العذبة.

نظرتُ إلى والدتها وإشارة استفهام كبيرة علت وجهي.

قالت الأم: لم تدخل المدرسة..

لقد شعرت حينها وكأنّ شيئاً ما قد كُسِرَ أمامي للتوّ وتناثرت ذرّاته في كل أرجاء الغرفة!

هي لا تعرف أل التعريف!.. ولا تعرف تهجئة اسمها حتّى!

تركتُ أخذ القصة المرضية ورُحتُ أسألها بأسىً عن قصتها.

قالت بأنّ ظروف الحرب في منطقتهم حرمت أغلب الأطفال من تعليمهم و لم يسعَ أحد لتغيير ذلك بعدها..

قد يعتبر البعض بأن هذا الأمر يبدو عادياً بحكم كونه واقعٌ موجود بكثرة في بلادنا والأمثلة عنه لا تُعدّ، لكنني لا أعلم لماذا شعرت حينها بكميّة العجز الذي يكتنفنا ونحن غير قادرين على تقدير الحجم الحقيقي لأي مشكلة أو إحصائيّة نقرؤوها أو نسمع عنها أو نشاهدها في نشرات الأخبار كل يوم،

فأنا لم أشعر بمدى صعوبة كلمة “لم تدخل المدرسة” الفعليّة إلّا عندما رأيتُها في وجه تلك الطفلة الصغيرة التي لا تعرف أل التعريف!

أخذتني الأفكار بعيداً جداً وأنا أتابع القصة الحزينة لتلك العائلة في حديث الأم، فكّرتُ حينها بأنّ أفظع الأمراض وأكثرها خطراً على الإنسان ليست الأمراض العضوية على الإطلاق ..

بل إنّ أفظع الأمراض وأكثرها خطراَ على الإنسان هو داءٌ واحدٌ لا غير ..

إنّه داءُ الجَهل.. ذلك الداء القاتل الذي يفتك بالمجتمعات ويجعلها على الحضيض..

الجهل بمفهومه الأوسع من عدم القدرة على القراءة والكتابة، والأوسع من عدم اكتراث أي أحد لعدم المقدرة تلك!..

الجهل الذي يخلق عمالة الأطفال وتسوّلهم في الطرقات بدل أن يذهبوا لمدارسهم!

الجهل الذي يجعل زواج القاصرات أمراَ عاديّاً!

الجهل الذي يدفع أحدهم لتناول المسكّنات بعشوائية على معدة فارغة إلى أن ينتهي بقرحة معدية!

ذلك هو الداء الذي يجب علينا محاربته وعلاجه قبل أي داء آخر.

لقد مضى على الموقف مدة لا بأس بها إلا أن تلك الابتسامة التي لا تعرف أل  التعريف ستبقى في ذاكرتي دوماً وسأظلّ أدعو الله أن تعرفها في يوم من الأيام..

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى