مساحة رأي

اتحاد الكتاب العرب في سورية استعصاء تاريخي

الكاتب السوري عماد نداف

لم أكن أتصور وأنا أعيش سجني الطويل في تدمر وصيدنايا وفرعي التحقيق والمنطقة أن المعاناة التي عشتُها ستتحول إلى هوية ثقافية تجعلني مؤهلا للدخول في اتحاد الكتاب العرب في سورية، الذي كان بيتاً للكتاب السوريين الكبار والعرب من شتى الاتجاهات بدءًا من الإخوان المسلمين إلى الشيوعيين إلى البعثيين وصولًا إلى الفوضويين.

وعندما خرجتُ من السجن بعد نحو عشر سنوات، ونشرتُ أعمالي القصصية وأكثرها تحاكي ظروف السجن والوطن، تقدمتُ لعضوية الاتحاد ورفضني الكاتب الكبير الراحل صميم الشريف، وعرفت بشكل ما أنه صاحب فكرة الرفض. عاتبته لأننا نعمل معًا في الإذاعة والتلفزيون، فصارحني بكل جرأة: أنت معارض ولست بعثياً. وكان ردي أنني بعثي، فسألني: كيف؟ فأجبته: ألم يقل حافظ الأسد إن كل السوريين بعثيون؟

دخلتُ اتحاد الكتاب العرب بعد ذلك، وكنتُ شاهدًا على عدة محطات، أولها أن الدكتور علي عقلة عرسان كان رئيس الاتحاد، وعندما أخبرته بمنعي من السفر أو الحصول على جواز سفر وأنني سأقوم بإضراب احتجاجاً على ذلك، فاجأني بأنه طلب من المقسم الاتصال برئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، وجرى الاتصال فعلاً وتحادثا قليلاً، فأخبر رئيس الشعبة أن كاتباً في الاتحاد له مشكلة ويرجو الاتحاد حلها، وأعطاني السماعة لأشرح وضعي لرئيس المخابرات.

تحدثتُ عن حالتي، وأنا أرتجف من الخوف، وأخبرته أنني أريد أن أكون مواطنًا عاديًا أعيش كباقي الناس، أو أنني إذا كنت متهمًا فأرجو إعادتي إلى السجن. وكان رد رئيس شعبة المخابرات أن كل ملفي سيُمحى من المخابرات، واتصل بهشام بختيار وأرسلني إليه، وهناك طُوي ملفي الأمني كله بحماية من اتحاد الكتاب.

ثانيها: أن اتحاد الكتاب العرب حجب الثقة قبل سنوات بقوة أعضائه عن رئيس الاتحاد رغم دعمه الكبير من الأمين العام المساعد للبعث، فأُقيل رئيس الاتحاد بناء على قوة أعضاء المؤتمر وإصرارهم على عدم صلاحيته.

ثالثها: وكانت في المؤتمر الأخير أن المؤتمر العام أجرى الانتخابات من دون أي استئناس حزبي، وانتُخبت قيادته بإرادة أعضائه، ولم يستطع الدكتور مهدي دخل الله، عضو القيادة في البعث، التأثير على مسير الانتخابات رغم قوة القيادة وسطوتها.

وثمة نقطة تتعلق بالاستقلالية المالية للاتحاد، حيث إنه لا يتلقى أي دعم من البعث ولا من الدولة (وزارة الثقافة)، وأن أعضاءه يسعون دائمًا إلى توسيع ممتلكات الاتحاد واستثماراته والدفاع عنها لتبقى موردًا مستقلاً وداعمًا لهم ولمشاريعهم الثقافية. وأذكر أنه عندما انعقد مؤتمر الكتاب والأدباء العرب في دمشق ووقع الاتحاد في ضائقة (مصاريف المؤتمر والفنادق)، لم يدفع له أحد أي قرش من التكاليف، علمًا أن هذه المهمة يفترض أن تقع على عاتق الدولة (المراسم)، بل إن وزير الثقافة دعا الضيوف على الغداء ولم يدفع التكاليف، بل دفعها الاتحاد من أموال أعضائه.

هذا يعني أن اتحاد الكتاب، الذي أُنشئ قبل أكثر من خمسين سنة من قبل نخبة من الكتّاب السوريين بحرية ووطنية (رابطة الكتاب السوريين)، وتطور أداؤه سنة بعد سنة، واتسع عدد أعضائه بانضمام نخبة من الكتّاب العرب، أصبح قويًا في المحافل الثقافية العربية والدولية، وبصفته نائبًا لاتحاد الكتّاب والأدباء العرب، ويفترض بعد انتصار الثورة في سورية أن يبقى قائمًا على الهوية نفسها، ليصبح أقوى، وخاصة أن عددًا كبيرًا من أعضائه سُجنوا ونُكّل بهم، وأن ثمة كتّابًا مع الثورة السورية هُجّروا وتشردت أسرهم، واليوم يعودون، وينبغي على اتحاد الكتاب العرب أن يتشرف بدخولهم فيه، علمًا أن الاتحاد بادر إلى إعادة كل المفصولين بعد عام 2011.

لقد أيّد اتحاد الكتّاب العرب انتصار الثورة السورية من اللحظة الأولى ببيانه الشهير، وجرى اجتماع موسع مع الكتّاب من قبل أحد مندوبي القيادة، وجرى تفاعل مدهش كشف عن أريحية ووعي كبير من الطرفين، لكن هذا التفاعل راوح أمام الاستعصاء الذي وقع مع النقابات السورية بعد الثورة، وسببه التخوف من حلول تؤثر على منهجية العمل النقابي الثقافي أو اللجوء إلى خطوات تشبه تلك التي حصلت مع اتحاد الصحفيين وغيره من النقابات. والأسلم، والأكثر عافية لكل من يدعم الثورة ويسعى لتجذرها، أن يتم كل إجراء جديد وفقًا لأنظمته، أو وفقًا لأنظمة جديدة تُعدل في مؤتمره العام.

لقد نجا اتحاد الكتّاب العرب من أي مشاكل على هذا الصعيد، لكن ثمة حاجة كبيرة للدمج بين صفوف الكتّاب الذين كانوا في صفوف الثورة والكتّاب الذين ينضوون في صفوفه، وهذا الاستعصاء يفترض أن يُحل بالعقلية الثقافية الوطنية التي تتجه إليها سورية بعد سقوط نظام بشار الأسد، ووفقًا للنظام والقانون الذي نريده أن يبقى ناظمًا لعمل الاتحاد.

وأعتقد أن أفضل السبل لتجاوز الاستعصاء هو القيام بعقد مؤتمر استثنائي يقوم بتعديل النظام الداخلي، بحيث يضم إلى صفوفه الكتّاب بالطريقة القانونية، ومن ثم انتخاب قيادة جديدة عبر مؤتمر ديمقراطي يفتح المجال بالنظام الداخلي الجديد لوصول أي عضو من كتّاب الثورة إلى قيادته، متجاوزًا شرط مرور عشر سنوات على عضويته، وبذلك يندمج الكتّاب السوريون ضمن برنامج واحد تحدد سياسة سورية الجديدة، أساسه الولاء لسورية الموحدة والقوية والمتنوعة، ومرتكزه الأساسي الديمقراطية داخل مؤسساته، التي ستنتج بطبيعة الحال صفًا واحدًا من المثقفين المدافعين عن الثقافة السورية بهويتها التي تعتز بها ووفقًا للوثيقة الدستورية وتحقيقًا لأهداف الثورة.

ومن الضروري التذكير بأن اتحاد الكتّاب العرب هو النقابة الوحيدة في سورية التي لم تخضع لآلية الاستئناس الحزبي في انتخابات الدورة الأخيرة 2021، وهو أمر يُحتسب له في زمن كانت فيه أغلب النقابات تُدار بإملاءات خارجية.

وفي هذه الدورة وعشية انتصار الثورة لعب الاتحاد دورًا إيجابيًا، وساهم في مساعدة الزملاء وإخراج عدد منهم من المعتقلات، وكذلك في حماية كُتّاب طالتهم تقارير كيدية واتهامات أفضت إلى مضايقات وتحقيقات أمنية.

لذلك، ليس من المنطقي اليوم بأي إصلاح شكلي أو تعيينات خارجية من غير أعضاء الاتحاد تتجاوز إرادة أعضائه أو تخالف أنظمته الداخلية. بل يجب التأكيد على أن أي قيادة جديدة يجب أن تنبثق من أعضاء الاتحاد أنفسهم، عبر انتخابات ديمقراطية تُحترم فيها القوانين واللوائح، بما يضمن استمرارية هذه المؤسسة واستقلال قرارها، بعيدًا عن أي وصاية.

وبخاصة في ظل بيان اتحاد الكتاب الأخير بترحيبه بالأدباء السوريين من الأطياف كافّة، واستعداده لتغيير نظامه الداخلي بما يضمن استيعاب الجميع وتعويضهم عن سنوات النزوح والقمع الذي كان يُمارس في البلاد مما حال دون انتسابهم.

إن الحفاظ على استقلالية اتحاد الكتاب العرب وقوته المؤسسية لا يخدم فقط الكتّاب السوريين، بل يشكل ضرورة لصورة سورية الثقافية عربيًا ودوليًا. فالاتحاد، حين يُدار بروح وطنية ومهنية، سيكون من أبرز الوجوه التي تعكس تنوع سوريا، وحيوية ثقافتها، وعمقها الحضاري، ما يجعله ركيزة حقيقية في مشروع بناء الدولة الديمقراطية بعد الاستبداد.

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى