اتفاق المنطقة الآمنة: تركيا تربح… الأكراد يخسرون
حقّقت تركيا، حلماً عمره من عمر الأزمة في سوريا. الاتفاق مع واشنطن على المنطقة الآمنة، وإن كانت تفاصيله غير واضحة أو غير معلنة بعد، مرشّح للانعكاس في أكثر من اتجاه، بدءاً بالموقف الكردي وعلاقات أنقرة ــــ واشنطن، وصولاً إلى موقع جميع القوى الفاعلة على الساحة السورية
حتى اللحظات الأخيرة، كانت المصادر التركية تعطي حظوظاً متساوية لاحتمالَي الاتفاق على المنطقة الآمنة والعملية العسكرية التركية في منطقة شرقيّ الفرات. التوصل إلى اتفاق بين تركيا والولايات المتحدة على إقامة منطقة آمنة أمس، جاء أول مؤشراته مع تمديد الوفد الأميركي إقامته في أنقرة يوماً إضافياً، بعدما ضاقت نقاط الخلاف إلى درجة لا تشكل مانعاً من توقيع الاتفاق.
في البيانات المنفردة عن وزارة الدفاع التركية والسفارة الأميركية في أنقرة حول اتفاق المنطقة الآمنة عبارات عامة؛ مثل تبديد مخاوف تركيا وتلبية مطالبها، وتسيير دوريات مشتركة تركية ـــ أميركية، وإعادة اللاجئين السوريين (طبعاً جزء منهم) إلى المنطقة الآمنة، وإقامة مقرّ مشترك لتسيير الدوريات.
لم يعلن البيان مقرّ القيادة المشتركة، مع ترجيح أن يكون في أنقرة. ولم تفصح البيانات عن عرض المنطقة الآمنة وعمقها. فطول المسافة من جرابلس إلى الحدود العراقية هو 480 كلم. وليس محتملاً أن تكون المنطقة على امتداد هذه المسافة، بل في مناطق معينة منها، الأرجح أن تكون في كوباني وتل أبيض ورأس العين.
كذلك، لم تشر البيانات إلى عمق المنطقة. فقد كانت تركيا تطالب بعمق 30 ــــ 40 كلم، فيما تقترح الولايات المتحدة 15 كلم. تغييب هذه النقطة عن الاتفاق ربما كان لترك تحديد العمق وفقاً لطبيعة كل منطقة على الحدود، على أن تراوح بين هذين الحدّين. أيضاً، من الطبيعي أن يشمل الاتفاق، من دون إعلان الأمر، نقطة في غاية الأهمية، هي نزع سلاح «وحدات الحماية الكردية» أو نقله من المنطقة الآمنة، وانسحاب المقاتلين الأكراد منها إلى مناطق العمق في شرقيّ الفرات.
اتفاقية المنطقة الآمنة مهمة جداً في هذه اللحظة من الكباشات الإقليمية والثنائية بين أنقرة وواشنطن:
1- هي تحقيق لحلم تركي عمره من عمر الأزمة في سوريا. وإذا كانت تركيا ترى سابقاً في المنطقة الآمنة وسيلة للضغط على النظام السوري وإسقاطه، فإن هدفها اليوم تعزيز دورها في سوريا كلاعب ميداني وسياسي، وإضعاف الجانب الكردي، والتقدم خطوة نحو الهيمنة على الشريط الحدودي داخل سوريا الذي كان ضمن حدود «الميثاق الملّي» لعام 1920، وبالتالي تمديد الحضور التركي المباشر من إدلب فعفرين وجرابلس إلى منطقة شمال شرقيّ الفرات.
2- الاتفاق خطوة متقدمة على طريق تطبيع العلاقات التركية ــــ الأميركية. فللمرة الأولى، تتفق الدولتان على خطوة طالما كانت موضع خلاف بينهما. كذلك فإن توقيتها مهمّ لرأب الصدع، ولا سيما بعد صفقة صواريخ «إس 400». ويُظهر الاتفاق أن واشنطن قدمت تنازلاً مهماً لتركيا، على أمل إعادتها إلى الحضن الأميركي من جديد في إطار الصراع الأميركي مع روسيا وإيران.
3- الاتفاق يقوّي موقع تركيا في الأزمة السورية، ويضع بيدها ورقة ضغط مهمة على «حلفائها» الروس والإيرانيين، ويوسّع هامش المناورة أمامها. وبالتالي، سيزيد من تعنتها في تطبيق اتفاق أستانا في شأن إدلب، كما سيُدخل مسارات الوضع في سوريا في متاهات جديدة.
4- يُظهر الاتفاق أن الولايات المتحدة باتت عاجزة عن التمسك بموقفها في حماية «حلفائها» (وحدات الحماية الكردية)، وبات همّها الأول منع تعرّض تلك «الوحدات» للأذى، وإبقاء جسمها العسكري سليماً من دون معرفة وجهة استخدامها لاحقاً: هل لحماية المناطق الباقية التي توجد فيها خارج المنطقة الآمنة أم لمهمات أخرى؟
5- ثمة سؤال أساسي عن موقف «وحدات الحماية الكردية» من الاتفاق. فقد عبّرت القيادات الكردية قبل أيام عن رفضها مشاركة تركيا في الدوريات داخل المنطقة المقترحة، وطالبت بقوات دولية أو أوروبية، فهل ستوافق اليوم على الاتفاق أم تعلن رفضها له؟ خصوصاً أنه في حال تطبيقه، سيكون انتصاراً كبيراً لتركيا على الأكراد من دون إراقة نقطة دم تركية واحدة. والأمر سيّان هنا بين أن تقوم تركيا بعملية عسكرية، أو تدخل المنطقة سلماً تحت ستار الدوريات المشتركة مع انسحاب المقاتلين الأكراد منها. لذا، فالموقف الكردي سيكون محرَجاً جداً في حال قبول الاتفاق، وسيجد صعوبة في تبرير الموافقة عليه أمام جمهوره.
6- وفي اتصال بالموقف الكردي، سيكون الاتفاق، حال تطبيقه، ضربة قوية لمشروع الإدارة الذاتية في منطقة «روج آفا» من كل النواحي الجغرافية والاجتماعية والسياسية، التي من أجلها كانت تفشل المحادثات بين الأكراد والدولة السورية. فالكلام في الاتفاق عن عودة اللاجئين السوريين إلى المنطقة الآمنة، استهداف مباشر لديموغرافية المنطقة من جانب تركيا، لمصلحة فئات من أصول تركمانية أو عربية موالية لها على حساب الوجود الكردي ذي الغالبية في بعض أجزاء المنطقة الآمنة.
7- والتساؤل هنا عمّا إذا كان الأكراد سيعيدون النظر في موقفهم من التعاون مع أميركا، وبالتالي يعاودون التواصل مع دمشق؟ أم سيرضخون للإملاءات الأميركية والتهديد بتركيا ليبقوا إلى جانب واشنطن؟
8- تبقى دمشق الغائب الأكبر عن معظم الاتفاقيات المتعلقة بسيادتها من اتفاقيات سوتشي وأستانا، إلى اتفاق المنطقة الآمنة اليوم. وبطبيعة الحال، سترفض دمشق اتفاق أنقرة جملة وتفصيلاً، وسيدفعها إلى الضغط أكثر على روسيا لاستعادة إدلب. ويكشف الاتفاق أيضاً تضليل أنقرة بأنها مستعدة لتطبيق اتفاق أضنة 1998 لضمان أمن حدودها مع سوريا، ويُدخل العلاقات التركية ـــ السورية في مزيد من انعدام الثقة والخصومة. وهذا ينقل الكلام إلى الموقف الروسي من اتفاقية المنطقة الآمنة، ومما بعدها، وفي مقدمها إدلب.
صحيفة الاخبار اللبنانية