احتفوا بمئويته وبـ6 سنوات على رحيله نجيب محفوظ روائي واقعي بطعم وجودي (أحمد فرحات)
أحمد فرحات
ست سنوات مضت على رحيل سيد الرواية العربية متكاملة الشروط الفنّية: نجيب محفوظ، الذي رحل عن دنيانا الفانية هذه في 30 أغسطس من العام 2006، وذلك عن عمر يناهز الـ 94 عاماً (مواليد القاهرة في 11 ديسمبر 1911). ولأجل ذلك كانت مصر، ومعها بعض الأوساط الثقافية العربية، ولاسيما في بيروت والرياض والرباط، قد احتفلت العام الفائت 2011 بمئوية هذا الكاتب العربي الكبير الذي كان استحق عن جدارة جائزة نوبل للآداب في العام 1988.
وعلى الرغم من أن المشهد الروائي العربي تطوّر وتعقّد ، وبرزت أجيال روائية عربية جديدة مبدعة ومتجاوزة بإبداعها، إلا أن التجربة الروائية المحفوظيّة حافظت، وفي خطّ بياني تصاعدي لافت، على سياق تطوّرها الفنّي والأسلوبي والرؤيوي، مصرياً وعربياً، فعرفت، مثلاً، الانتقال من الواقعية إلى الوجودية إلى الرمزية، وصولاً حتى إلى طرائق السرد الروائي الفانتازي، وما بعد الحداثي، كما نجد في روايتيه: "الحرافيش" و "ليالي ألف ليلة".
ولقد أقبل على أعمال محفوظ جمهور القرّاء العرب بأجيالهم المختلفة، وسجلت رواياته أعلى أرقام المبيعات في معارض الكتب والمكتبات العربية، فضلاً عن أن دور النشر التي تولت إصدار رواياته كانت قد طبعت من كلّ رواية، طبعات عدّة وصل بعضها إلى 15 طبعة.
طابع مصري خصوصي
وواقعية نجيب محفوظ و"وجوديته" ورمزيته، هي ذات طابع مصري خصوصي، حتى أن الذين أتوا بعده من روائيّين مصريّين وعرب مميزين، كانوا مدينين لتطوّر مراحل تجربته الإبداعية، وأنه، مثلاً، ليس من السهولة كما يقول الروائي الأردني إلياس فركوح "اجتراح كتابة جديدة للرواية العربية في وجود نجيب محفوظ بكلّ ثقله الروائي… ومن ناحية أخرى، فإن معظم الكتابات الروائية العربية حتى مرحلة الستينيّات كانت حقيقة لا تزال في ركب نجيب محفوظ. وفي أواخر الستينيّات بات الخروج والتمرد على محفوظ واضحاً، ولكن بمفهوم التجاور وليس بمفهوم التجاوز."
باختصار هضم نجيب محفوظ رواية تيار الوعي كما عرفناها عند جيمس جويس وفرجينيا وولف ووليم فولكنر، والرواية الجديدة كما تجسّدت في أعمال ألان روب غرييه وكلود سيمون ونتالي ساروت..
كما أنه تطرّق بشكل أو بآخر إلى تقنيات السرد الجديدة لرواية ما بعد الحداثة، حيث يتزامن هذا السرد فيها على أكثر من حدث دفعة واحدة، ويحدّد -أي السرد- شكل اللغة ومفعول ظاهرها بتأويلاته. ولذلك ومن فرط امتلاكه لأداته اللغوية، لم يعد نجيب محفوظ يحتفي (خصوصاً في أعماله الأخيرة) بالبلاغة المنضبطة، بل حلّت محلها لديه هنا رواية المكان بناسه وتراصف إيقاعاتهم المختلفة كما هي؛ وباتت اللغة المحفوظيّة هنا حركة تحليلية انسيابية تتماثل وتتناقض مع الموضوعات التي تصفها. ولا عجب فقد صرّح لمجلة "الكفاح العربي" البيروتية "بأن الروائي هو إنسان دواري، فصامي بامتياز." وبأن "الكتابة الروائية ذات أبجدية صوتية تتجاوز اللغة الحاملة لها. كما أن الخيال فيها يحاور نفسه بنفسه أحياناً من خلال الأداة القلقة التي اسمها الكاتب."
صورة عن قرب
كلّ من عرف نجيب محفوظ عن قرب كان يجد فيه شخصية أدبية واثقة، جريئة، هادئة ومتواضعة جداً. يجلس مع الكلّ ويحاور الكلّ، هكذا بلا عقد… ويفاجئ الجميع بقراءاته للأجيال الروائية على اختلاف تجاربها وأعمارها. وقد يطلب منه بعض الكتّاب ملاحظات على أعمالهم الجديدة فيقرأها بجدية ويبدي ملاحظات عميقة وذكية عليها، فنياً ورؤيوياً. وقد أشار أكثر من روائي مصري إلى هذا الأمر، منهم جمال الغيطاني ويوسف القعيد ومحمد البساطي ويوسف أبورية وغيرهم… وغيرهم.
كان نجيب محفوظ شخصية منظّمة للغاية، وفي كلّ شيء، حتى في الكتابة الإبداعية. فهو يكتب في وقت معيّن، ويقرأ في وقت معيّن. لكن هذا لا يعني أن الإبداع لديه كأفكار، كان يخضع لنظام معيّن. فالأفكار والمتخيّلات الإبداعية هي دائماً خصوصية، جوّانية، يحمل الكاتب فوران أسئلتها ودواعيها في جميع حالاته: وهو على الطريق، أو في العمل، أو في أوقات النزهة والطعام والراحة، وحتى في النوم والاستيقاظ.. وهكذا فحال الإبداع المحفوظيّة هنا لا تخضع لنظام معيّن وإنما الذي يخضع للنظام هنا هو لحظة بدء عملية تسجيل الكتابة أو صبّها في سرد روائي أو قصصي.
ومن فرط كونه شخصية منظّمة أيضاً.. وأيضاً، كان نجيب محفوظ يخصّص وقتاً محدداً للأصدقاء، مساء كلّ خميس بعد المغرب. يلتقي بهم في المقهى، يستمع إليهم أكثر ممّا يتكلم، وأحياناً يترك له "الحرافيش" مجالاً للتكلم أكثر عن قصدٍ منهم. وغالباً ما كانت الأحاديث تدور حول موضوعات الساعة سياسياً وأدبياً. كما كانت بعض الأحاديث تجنح نحو الشخصي أحياناً، وتتناول حتى مسألة التدخين.. فلقد قال مثلاً "إنه يدخن سيجارة كلّ ساعة بالضبط".
ومحفوظ الذي ترجمت أعماله إلى أكثر من 60 لغة في العالم، كان قد بدأ رحلة الكتابة في العام 1932؛ حيث مارس عليه سلامة موسى تأثيراً طاغياً، جعله أولاً، ينفتح على حضارة مصر القديمة، وثانياً على الحضارة الغربية وتجديد عدسة الرؤية من خلالها إلى أشياء الحياة والأدب والمجتمع والسياسة. وربما لهذا السبب رأينا نجيب محفوظ يبدأ حياته الأدبية بترجمة كتاب عن الإنكليزية عنوانه "مصر القديمة" نشره له سلامة موسى بنفسه. وتحت تأثير هذا الأخير ألف نجيب محفوظ أيضاً ثلاث روايات عن مصر الفرعونية هي: "عبث الأقدار"، "رادوبيس" و" كفاح طيبة". وبدءاً من العام 1945 بدأت رحلة نجيب محفوظ مع روايات الواقع المصري والحارة المصرية: "الجمالية" و "العباسية"..إلخ، ومنازعات الطبقة التقليدية وتناقضاتها المفارقة بين البيت أو البيئة المحافظة من جهة، والتفلّت منها حتى المجون من جهة ثانية (أحمد عبد الجواد في الثلاثية).
وفي المرحلة الناصرية كان نجيب محفوظ ثائراً شبه متفرد، يغرِّد خارج السرب، حتى بات هو بنفسه، وكما يقول البعض، يشكّل "حزباً سياسياً قائماً، يقاتل بهدوء، وينتقد برصانة، ويحلّل بذكاء أمراض الواقع الاجتماعي- السياسي، في وقت اختار آخرون، إما التصفيق أو الصمت".
باختصار كان نجيب محفوظ أديباً اجتماعياً وسياسياً بامتياز في معظم رواياته. ففي روايته "ثرثرة فوق النيل" (1966) تنبأ مثلاً بهزيمة العام 1967. وفي "الكرنك" صوّر دراما عنف النظام السياسي وغياب الديمقراطية… وحتى "مجتمع الانفتاح" في ما بعد، نال نصيبه من النقد الروائي المحفوظي، فناشت سهامه طبقة "الانتهازيّين" و "المتسلقين" الذين أثروا على حساب الطبقتين الدنيا والوسطى، والتي كان بالكاد أفرادهما يترجمون طموحهم بشقة متواضعة جداً لبناء حياة زوجية لا تتجاوز الكفاف إجمالاً. وكان محفوظ يقول: "لا تخلو رواية من رواياتي من السياسة والنقد السياسي.. والسلطة في مصر كانت تعي ذلك، لكنها كانت تتجنّب الصدام المباشر معي، ربما لأن استفزازي لها كان لائقاً ومهذباً".
صدام أولاد حارتنا
على أن أكبر صدام واجهه نجيب محفوظ في مساره الحياتي والأدبي، وكاد يطيح برأسه في ما بعد، فهو عندما كتب ونشر روايته الشهيرة "أولاد حارتنا" مسلسلة على حلقات في "الأهرام". فقد قامت وقتها قيامة شيوخ الأزهر عليه، وطالب بعضهم بمحاكمته وسجنه وإقامة الحدِّ عليه بتهمة "تطاوله على الذات الإلهية والمسّ برموز الأنبياء".
وكانت هذه الرواية التي نوّهت بها لجنة جائزة نوبل، على هامش منح جائزتها لمحفوظ، قد أجاز نشرها محمد حسنين هيكل أيام رئاسته لتحرير "الأهرام". وقد أصرّ هيكل على نشر حلقاتها بالكامل، على الرغم من احتجاج الأزهر الصارخ عليها ودعوته الرئيس عبد الناصر والحكومة المصرية للتدخل في الأمر. وبالفعل تدخّل عبد الناصر من خلال ممثله الشخصي حسن صبري الخولي لدى نجيب محفوظ ورئاسة تحرير "الأهرام"، وكان اتفاق على ألاّ تنشر الرواية في كتاب مستقل بعد إنجاز نشر حلقاتها في "الجورنال". لكن هذا الشرط لم يحدّد منع نشر الرواية خارج مصر، فتلقّف الرسالة هنا الأديب اللبناني سهيل إدريس صاحب دار "الآداب" المرموقة وأصدر "أولاد حارتنا" في كتاب مستقل في العام 1962، سرت عملية بيعه كالنار في الهشيم في أغلب الأسواق العربية، ما عدا مصر التي منعت دخول الكتاب، وإن كانت نسخاً كثيرة مهربة منه قد دخلت الأسواق المصرية. وقد طبع من "أولاد حارتنا" ما يتجاوز 11 طبعة معلنة، وكلّ طبعة كانت تتجاوز الأربعين إلى خمسين ألف نسخة وربما أكثر.
ويقول بعض الراسخين بعلم النشر في لبنان إن العراق وحده استهلك من "أولاد حارتنا" أكثر من 200 ألف نسخة، الأمر الذي حقّق ولا شكّ ربحية عالية جداً للدار، ما حفز في المحصلة ضمير صاحب الدار في أن يرسل شيكاً بمبلغ مالي محترم إلى نجيب محفوظ في مصر عبر وسيط مصري مرموق ومعروف بجديته. ولما واجه الوسيط، الروائي نجيب محفوظ وفي يده الشيك، رفض الأخير قبضه وأمر بإعادته إلى مصدره لأنه "يكفي صاحبه ما تجشّم من عناء تحدّ ومواجهة ربما كادت تطيح بصاحب الدار ومصالح داره في أكثر من بلد عربي".. وبالفعل كان سهيل إدريس قد تعرض أيضاً لتهديدات متلاحقة كونه تجرأ ونشر الرواية.
مؤسسة الفكر العربي