استعارة مكان
استعارة مكان … كنت ، عندما أغيب عن دمشق، أحس بصوت في المكان، الذي أنا فيه، ينبّهني، عبر الحواس كلها: ثمة مدينة تنتظرك!
وعندما أدخل المدينة، أتخيل بواباتها السبع، وأنني ، في كل مرة عبر خمسين عاماً ، أدخل من الباب الثامن … حيـث تواجهني الأبنيـة الحديثـة بـدلاً من الســور العتيق..
ثمة فرح غير قابل للوصف... لحظة العبور في الشــوارع التي أعرفها واحـداً واحداً… وصولاً إلى ذلك النور المشّع من مناطق ذكريات الصبا الأول. هنا وهناك وهنالك… عشنا تلك اللحظات التي تذكّرني بنموّ بدني وروحي، يشبه نمو الشجيرات واخضرار براعمها … ففي هـذه المدينة تكوّن لي كل شــيء من لحظة الثقافــة، إلى ساعة العاطفة. وفيها عرفت هذا العالم المتخيل، والذي زرت الكثير من بلدانه لاحقاً.
وفيها تذوقت كل شيء من النبع الشديد البرودة ” بردى” إلى الطعم الفائـق العذوبــة لمساءات المدينة عندما تهمد الضجة، ويستيقظ العملاق في صدر الإنسـان لاسـتقبال العذوبة، فيما يقيم ليل دمشق الموتى ليسهروا، أرواحاً، في أزقتها!
يوم الخميس الماضي… لم أكن أعلم أن ثمة من ينفّذ وهم\ أو حقيقة تحريردمشق من نظامها ، بالرصاص والقنابل، ويرد المدافعون عن دمشق بالمدافع والطائرات!..
وهكذا جئت إلى البوابـة الثامنـة، آتياً من رحلة في الساحل . فقيل لي: عُد من حيث أتيت ! المدينة مشتعلة!
ولأول مرة ينبض القلب القديم بتلك الدفعة من الألم بدلاً من ذلك الضجيج العميم في القلب أيام دخولي الآمن السابق إلى المدينة!
حاولت الدخول من أقصى غرب المدينة، ولكن الحواجز قالت لا تدخل. ثمة قناصة في الطريق! ولم يبق أمامي سوى طريق واحد، خطر وآمن حسب درجة الخطر… ولكنه طريق إلى مدينة صغيرة في الريف السوري اسمها”صيدنايا”. ذهبت إلى دير يوناني قديم أقيم إلى جواره فندق صغير.
هناك على تلّة صخرية بقيت يومين أطل من شرفة المساء على سهل لا صوت فيه، وعلى طريق لا بشر فيه، وعلى سماء توحي، عند سوادها، أن دخاناً آتياً من دمشق هو دخان حريقها!
في هذا الدير اليوناني كنت المصلي الوحيد، وفي فندقه كنت النزيل الوحيد. كان بوسـعي قضاء يومين مليئين بمفردات الوحدة، والتأمل، والاسترجاع… ولكن ليـس في ظل أســباب من هذا النـوع : أن تكون الحرب قادرة ، فجأة، على حرمانك مــن دخول مدينتك التي أحببت! وهكذا كنت فقط احدق بسـاعة الفجر، وســاعة الظهيرة وسـاعة الغروب منتظراً غيمة ليسـت سـوداء تقول لي: اهبط إلى دمشـق… الطريق سالكة!