الأتراك بنوا سينما، والسوريون بنوا برلمانا فوقها!
انتبه الشيخ علي الطنطاوي، أحد وجوه دمشق الدينية والأدبية المعروفة في النصف الأول من القرن العشرين، وهو والد بنان الطنطاوي زوجة زعيم الإخوان المسلمين الأسبق في سورية عصام العطار، انتبه إلى مسألة مهمة تتعلق بالسينما التي بناها الأتراك في دمشق عام 1916، فقال :
ــ ((وما في البلد (أي دمشق) إلا سينما أنشأها الأتراك للدعاية الحربية كانت في موقع البرلمان ، أخذونا إليها فأرونا ( فلماً ) عن حرب ( شنا قلعة ) أثناء الحرب الأولى )) .
أي أن السينما أحدثت للدعاية العسكرية، وليس لرفاه السوريين، فماذا حل بهذه السينما الأولى في سورية؟!
يروي بشار منافيخي، وهو موثق سوري، عن رشيد جلال السينمائي الرائد أن سينما شنا قلعة هذه أو ((جناق قلعة)) هي أول دار للسينما أسست في دمشق وذلك في أواخر العهد العثماني في عام 1916 وقد افتتحها قائد الجيش الرابع العثماني ( جمال باشا السفاح ) وسميت بهذا الاسم تخليداً لانتصار الجيش العثماني على الأسطول البريطاني في مضيق جناق قلعة..
لم يهنأ الأتراك بهذا الانجاز الدعاوي التركي لجيشهم الذي كان يتداعي وقد نهشته أوروبا في الحرب العالمية الأولى، فبعد ((عروض استمرت شهراً من افتتاح الصالة ، اندلع حريق سببه حرارة القوس الكهربائي لآلة العرض، فاحترق الفيلم بعد انقطاعه ولم يكن في صالة السينما أية وسيلة للإطفاء فاندلعت النيران في كافة أرجاء السينما، وبقي بناء السينما خراباً مدة طويلة حتى أقيم مكانها مبنى البرلمان السوري ))!
في الأول من آب 2010 نشر الموثق السوري شمس الدين العجلاني مقالا عن الموضوع نفسه في مجلة الأزمنة أوضح فيه أن أنقاض هذه السينما بقيت مدة طويلة، (( وفي زمن المستعمر الفرنسي أرادوا بناء مقر للبرلمان السوري، وبحثوا في أنحاء دمشق ولم يروا أفضل من موقع هذه السينما، فاستقر الرأي على ترحيل أنقاض السينما وبناء مقر للبرلمان السوري مكانها، وكان ذلك عام 1928، حيث بُدئ في هذا العام ببناء دار البرلمان السوري (مجلس الشعب حالياً) على أنقاض سينما جناق قلعة)) .
تحول المكان إلى رمز تاريخي للسوريين، فما من أسماء بارزة في الحياة السياسية والوطنية السورية بعد الاستقلال وقبله إلا ويذكر اسم البرلمان معها، ومن أي اتجاه كانت، بل أن السوريين قدموا دفاعا عن مبنى البرلمان، وفي ساعة واحدة نحو ثلاثين شهيدا في 29 أيار 1945، بعد إنذار وجهه الجنرال روجيه إلى رئيس البرلمان يهدده فيه بانتقام فرنسا من المواطنين السوريين الذين ((يعتدون)) على الجنود الفرنسيين على حد زعمه، ويطلب إليه أن تقوم حامية البرلمان بتحية العلم الفرنسي عند إنزاله في المساء عن دار أركان الحرب الفرنسية المواجهة للمجلس.
رفض حماة البرلمان أداء التحية للعلم الفرنسي، فالسوري لايؤدي التحية إلا لعلمه، وهو موقف يـتأصل في وجدان السوريين.. كان الرد الفرنسي على هذا الرفض هو قصف البرلمان وارتكاب مذبحة استشهد فيها كل جنود الحامية السورية . دافع جنود الحامية حتى اللحظة الأخيرة من حياتهم عن مبنى البرلمان ، بما يعنيه من رمز وطني لسورية والديمقراطية فيها !
يوما بعد يوما وسنة بعد سنة، وفي هذا المكان الذي دافع عنه حماته حتى اللحظة الأخيرة، جلس السوريون مع بعضهم البعض بغض النظر عن أي انتماء لهم :جلس المسلم السوري مع المسيحي السوري، فلم يفرق السوريون بين بعضهم البعض على أساس الدين، وفي تاريخ البرلمان السوري كان ليونادو، وعزرا أزرق ووحيد مزراحي يهودا صاروا نوابا عن دمشق وحلب في فترات مختلفة !
جلس الكردي مع العربي مع الشركسي مع الآشوري مع التركماني مع الأرناؤوطي (الألباني).. كانوا جميعا يتجاورون في المقاعد وهم يمارسون مهمتهم البرلمانية ..كانوا يختلفون ويتفقون، فالقاسم المشترك بينهم هو دم حامية البرلمان .. هو ((وطن)) .. وطن له مكانة كبرى في التاريخ والجغرافيا والسياسة والثقافة ..
في هذا المكان جلس الشيوعيون مع البعثيين مع الإخوان المسلمين مع الناصريين مع الاشتراكيين العرب مع الوحدويين الاشتراكيين مع القوميين السوريين ..
لم يتردد أي سوري في الانصات إلى رأي سوري آخر، فقد ألقى خالد بكداش، وهو شخصية شيوعية عاصرت تلك الفترة، الكثير من المداخلات التي أنصت إليها حتى الاخوان المسلمون، ويروي في كتابه ((خالد بكداش يتحدث))، أن من طرائف تلك الأيام، هو الهجوم الذي شنه نائب الإخوان المسلمين عبد الرؤوف أبو طوق على الشيوعية، وكان خالد بكداش خارج القاعة يدخن سيكارته، وعندما عاد توقف أبو طوق عن الكلام ، فقال له ناظم القدسي رئيس المجلس مازحا: إخلص. ..جاء خالد بكداش .. جاء .. فترك هذا النائب المنبر وعاد إلى مقعده !
بنى الأتراك سينما ((جناق قلعة)) للدعاية لجيشهم الانكشاري، وفوق أنقاضها بنى السوريون، برلمانا دافعوا عنه ببسالة عندما أراد الفرنسيون انتهاكه، وهذا البرلمان ظل موجودا حتى اليوم يحمل الكثير من الصور الناصعة في الحياة البرلمانية السورية..
ترى من سيجلس في هذا البرلمان بعد حرب السنوات الخمس ؟!
هل سيجلسون كما جلس خالد بكداش الشيوعي مع عبد الرؤوف أبو طوق الإخوانجي؟ هل سيتنافسون كما تنافس البعثي رياض المالكي مع مرشد الاخوان المسلمين الدكتور مصطفى السباعي على مقعد دمشق؟ أم أن ذلك ضربا من المستحيل ؟!
هل سيؤكد السوريون أن البرلمان هو دارهم؟ أم أن شد الحبال سيأخذهم من مكان إلى آخر في لعبة الأمم والفنادق والحرب ؟!