الأدب والمجتمع
إنّ علاقة الأدب بالمجتمع علاقة جدلية تفرضها مقوّمات النشأة والتطوّر داخل هذا الوسط، وقد فرضت الظروف والمتغيّرات والتحوّلات المجتمعيّة ظهور نوع جديد من الالتزام المحدَّد بالأوضاع الاجتماعية والسياسية التي تتحوّل وتتغيّر باعتبارها صيرورة وجودية إن سلباً أو إيجاباً، والمقصود هنا بالالتزام انصهار الأديب في مجتمعه وانشغاله بقضاياه التي تُعدّ جزءاً من يوميّاته الطبيعية.
هذا المفهوم البسيط للالتزام قائم منذ قام الأدب. ومن هذا المنطلق، فإنّ الشاعر بحُكم موقعه مدعوّ إلى متابعة هذه الصيرورة وإلى معايشتها وتأريخها أدبيّاً- شعريّاً- فلا يمكن أن تُصوِّر إنتاجاً أدبيّاً ما من دون أن يكون هذا الإنتاج متّصلاً اتّصالاً وثيقاً بالمسألة الثقافية، ومن دون أن يكون على ارتباط بالمجتمع في مختلف صوره وأشكاله. لكن ليس معنى هذا أن يكون الأدب، سواء أكان شعراً أم نثراً، صورة فوتوغرافية ومرآة مسطَّحة عاكِسة لهذا الواقع، وإنّما وجب أن يتسلَّح بفنون الجماليات والرؤى الفنّية التي تحيل الواقع الحقيقي إلى واقع لغوي فنّي جميل يحمل رسالة إنسانية عامّة.
فالأديب يعيش دوماً في حركيّة وصراع بين الواقع الكائن من جهة، والواقع المُمكن من جهة أخرى، وهذا الصراع هو في حقيقته نتيجة حتميّة لعدم رضاه وقناعته بما هو عليه حال مجتمعه، سواء على المستوى السياسي أم الاجتماعي أم الثقافي، فتراه دوماً في حالة من التوتّر الفكري باحثاً عن انسجامية بين الحقيقة والواقع بطرح أسئلة الذّات والوجود وأسئلة التحوّل والمستقبل. إنّه يعيش وعياً شقيّاً كما قال سارتر ” لأنّه يكتب في مجتمع تسوده الفوارق من كلّ نوع وتنتصب داخله العراقيل أمام ممارسة الناس لحرّياتهم”. وبالتالي يصبح دَور العمل الأدبي دَوراً متميّزاً داخل المجتمع ووعي الأفراد به باعتباره وسيلة من وسائل بثّ الوعي الفكري والجمالي برسالته الأدبيّة والجمالية.
تظلّ العملية الإبداعية في حقيقتها عملية تأسيسية تأخذ منطلقها من الواقع – مهما كان نوعه- باعتباره مرجعية أساسية ومنطلقاً بديهياً، كما تستمرّ في نسج بنياتها وشبكاتها في الآفاق التي يستشرفها المُبدع باعتباره صاحب ملكة شعرية، وباعتباره الناطق باسم الوعي الجماهيري في المجتمع الذي ينتمي إليه، وباعتباره ثالثاً حاملاً لرؤية أو رؤى ومستنداً إلى مرجعية ثقافية ومخزون فكري، فهو ليس ذلك المتزهّد الذي ينزوي إلى عمق ديره أو صومعته، وينعزل عن المجتمع بكلّ تطوّراته ليسلك مسلك الصوفي في نزعاته الوجدانية وشطحاته الفكرية، بل هو جزء لا يتجزأ من واقع متحوّل وديناميكي في تركيبته لا يهدأ بل يشارك في كلّ ما يمسّ وجدان الأمّة سواء أكان على الصعيد الوطني أم العربي أم العالَمي بإنسانيّته الشموليّة. فالشعر إذن هو ما يقوله الشاعر في سياق تاريخي محدَّد ومن أجل غاية معيَّنة قد تكون هي الإمتاع وكفى وقد تكون هي الإفادة فحسب، وقد تكون جماع هذين الجانبَين ولكنّه لا يستطيع أن يكون غير ذلك وإلّا بطل أن يكون شعراً.
علاقة بالفعل وبالقوّة
العلاقة بين الأدب والمجتمع قائمة بالفعل وبالقوّة، فالأدب لا يكون أدباً إلّا في ظلّ شروط اجتماعية محدَّدة. فالأديب المُنتج للعمل الأدبي، هو في البدء والختام فاعل اجتماعي قادم من مجتمع معيّن. والمتلقّي المُفترَض لهذا المنتوج الأدبي / الاجتماعي هو فاعل اجتماعي آخر، والنسق العامّ الذي يحتضن هذه العمليّة يظلّ هو المجتمع بفعاليّاته وأنساقه الفرعيّة الأخرى. فعلى مستوى حقل الاشتغال، يتأكّد واقعياً أنّ هذا الحقل يتمّ بالنسبة إلى الأديب والأدبوالمتلقّي على صعيد المجتمع ، فالأدب مشروط من حيث إنتاجيته وتداوليته بوجود المجتمع، وإلّا ما أمكن ” تقديره” واعتباره أدباً. أمّا على مستوى آليات الاشتغال ومولّداته، فإنّ الاجتماعي يلعب دَوراً بالغاً في إنتاج الأدب وبلورة الرؤى والمسارات المؤطِّرة له. ولئن كان أنصار التحليل النفسي يذهبون إلى الربط الصارم بين العملية الإبداعية الأدبية والعناصر السيكولوجية، فإنّ الدرس السوسيولوجي يلحّ على التداخل والتشابك بين عدد من العناصر النفسية والاجتماعية والسياسية والثقافية في صناعة الأدب. وهي عناصر يمكن إجمالها في سؤال ” المجتمع “؛ إذ إنّ عملية الإنتاج الأدبي والإيديولوجي لا تنفصل بالمرّة عن العملية الاجتماعية العامّة. فالأدب هو محصّلة نهائية لتداخل عوامل مجتمعية يحضر فيها النفسي والجمعي و التاريخي، ولا يمكن بالتالي أن ينفصل عن سياقه المجتمعي. فكلّ نصّ هو تجربة اجتماعية، عبر واقع ومتخيَّل. وعلى الرّغم من كلّ المسافات الموضوعية التي يشترطها بعض الأدباء لممارسة الأدب، فإنّ المجتمع يلقي بظلاله على سيرورة العملية الإبداعية، بل ويوجِّه مساراتها المُمكنة في كثير من الأحيان.
والأدب انعكاس اجتماعي بطبيعة الحال، وذلك ” أنّه نشاط اجتماعي قبل أن يكون نشاطاً لغويّاً. حتّى اللّغة تُفسَّر من منظور اجتماعي قبل أن تُفسَّر من منظور آخر” (أحمد فرّاج، الثقافة والعَولمة.. صراع الهويّات والتحدّيات،2003). ومن ثمّ فإنّ الأدب قابل للتعريف من منظور اجتماعي على أنّه مجموعة من القيَم، أو التعبير عنها.
ولنا أن نتأمَّل صلة الأدب بالمجتمع في أقدم صُور الأدب ” ولنرجع إلى الوراء إلى أعمق صُور للشعر، وهي الشعر القصصي عند اليونان، صورة الإلياذة، فسنجدها لا تتغنّى بعواطف فرديّة، وإنّما تتغنّى بعواطف الجماعة اليونانية لعصرها، مصوِّرة حروبها في طرواده ومَن استبسلوا فيها من الأبطال، ومن هنا نشأ القول إنّ ناظمها ليس هو هوميروس وحده”(شوقي ضيف، المدخل الاجتماعي للأدب) . وفي العصر الجاهلي كان الشعر العربي مرآة عصره، وصورة من حياة العربي وباديته، أو كما يقال: كان ديوان العرب، أو سجلّهم الذي يصوِّر حياتهم، ويحكي عاداتهم وتقاليدهم، ويعكس أحوال معيشتهم في صدق تامّ. ولنا أن نتوقّف عند شاعر مثل “عمرو بن كلثوم” الذي دخل التاريخ بقصيدة واحدة تناقلتها الألسنة، وغنّتها القوافل جيئةً وذهاباً، وأكثَر بنو قبيلته “تغلب” من إنشادها جيلاً بعد جيل حتّى قال فيهم الشاعر:
“ألهَى بنِي تغلبَ عنْ كلِّ مكرُمـَةٍ
قَصيدة قالها عمرو بن كُلثُومِ
يروونها أبداً مـذ كان أوّلهم
يا للرجالِ لشعرٍ غيرِ مسؤومِ”
والتساؤل الآن: لماذا دخل عمرو بن كلثوم التاريخ الأدبي بمثل هذه القصيدة الوحيدة، ولماذا حفظها بنو تغلب وتناقلوها وظلّوا يفاخرون بها جيلاً بعد جيل؟ ألتدفُّق المعنى وقوّة السبك وتلاحم النسج، وجودة الصياغة وحسن العبارة، وسلامة الأسلوب، أم لأنّه بجانب هذا ارتبطت القصيدة بحياة القبيلة ارتباطاً مباشراً، وبما دار من حروب بينها وبين قبيلة “بكر” فيما عُرِف بحرب البسوس؟ ولا شكّ أن القصيدة تتغنّى بأمجاد القبيلة وبطولاتها وتُصوِّر ما كان عليه رجالها من شجاعة وإقدام وعزٍّ وجاه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى ارتبطت بموقف يدلِّل به الشاعر شخصيّاً على الإباء والشجاعة والجرأة، وهو ما تضمّنته قصّته مع “عمرو بن هند” التي انتهت بمقتل الأخير. ويمكن التأكيد بأنّه لم تكن العلاقة المُتبادَلة بين الأدب والمجتمع محلّ شكّ على مدى التاريخ الأدبي، وإنّما الإشكاليّات كانت تتراكم حول وجهة النَّظر التي يُنظر بها إلى هذه العلاقة، وفي طُرق تناولها نقديّاً، وفي الصراع الفكري والفلسفي الذيدار حولها. وعلى مدى التاريخ الحديث، ومنذ انتهاء سيطرة الكنيسة على المجتمع والفكر في أوروبا وظهور ما يسمّى بالعلمانيّة، شهدت الفترة التالية نهضة للعلوم الطبيعية، سيطرت بمنهجها وقوانينها منذ القرن التاسع عشر على البحوث الأدبيّة سيطرةً أدّت إلى ظهور ما يُمكن أن نسمّيه بالتاريخ الطبيعي للأدب عند طائفة من النقّاد ومؤرّخي الآداب، يأتي فيمقدّمتهم “سانت بيف” و”تين” و”برونتيير” متأثّرين بفلسفة “أوغست كونت” الوضعيّة، في ما عرفوا تاريخيّاً بالنقّاد الوضعيّين نسبةً إلى هذه الفلسفة، وكانت لهم رؤيتهم لهذا العلاقة التي نحن بصددها الآن، ولدَور الأدب والأديب والمجتمع أيضاً. وفي رأي أصحاب هذا الاتّجاه أنّ من أشدّ الأمور خطأ أن يُقال إنّ كلّ أديب كيان مستقلّ بذاته، وبآثاره. فالأديب وكلّ آثاره وأعماله ثمرة قوانين حتميّة عملت في القديم، وتعمل فيالحاضر، وتظلّ تعمل في المستقبل، وهو يصدر عنها صدوراً حتميّاً لا مفرّ منه ولا خلاص. إذ تُشكّله وتُكيّفه بحسب مشيئتها وبحسب ما تحمل فيتضاعيفها من جبر وإلزام.
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)