الأزمة الأوكرانية: إلى أين؟
المسار الذي سلكته الأزمة على مدى الأسابيع الخمسة السابقة يوحي بسيناريوهات عديدة، يمكن تصوّر أهمها على النحو التالي:
تختلف الأزمة الأوكرانية عن كل الأزمات الدولية التي سبقتها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وذلك من نواحٍ كثيرة: أسبابها، وأطرافها، والأدوات المستخدَمة في إدارتها، لذا يُتوقع أن يكون لها تبعات غير مسبوقة، ليس فقط على الأطراف المشاركين فيها، سواء بشكل مباشر أم غير مباشر، بل على بنية وموازين القوى في النظام الدولي ككل. فروسيا تصف الحرب المشتعلة الآن على الساحة الأوكرانية، والتي بدأت يوم الـ 24 من شباط/ فبراير الماضي وما تزال مستمرة حتى الآن، بـ “العملية العسكرية الخاصة”، بينما تصفها وسائل الإعلام الغربية بـ”الغزو الروسي لأوكرانيا”، وهذا في حدّ ذاته أمر بالغ الدلالة.
الرواية الروسية تحمّل حلف الناتو كامل المسؤولية عن اندلاع الأزمة التي أدّت إلى اشتعال الحرب، وذلك بسبب سياساته التوسعية التي استهدفت احتواء روسيا وحصارها والعمل على منعها من استعادة المكانة التي تليق بها في النظام الدولي، وتقول إن الحلف أخلّ بتعهدات شفوية تقضي بعدم الإقدام على ضمّ أي من الدول التي كانت جزءاً لا يتجزأ من الاتحاد السوفياتي نفسه، وتؤكد روسيا أنه سبق لها أن نبّهت مراراً وتكراراً إلى خطورة ما تنطوي عليه السياسات التوسعية لحلف الناتو من تهديد لأمنها القومي، ولا سيما أن هذه السياسة تتضمن في الوقت نفسه نشراً لصواريخ استراتيجية بالقرب من حدودها الغربية، ومع ذلك راح الحلف يتمادى في غيّه واندفاعه التوسعي، إلى أن وصل إلى أوكرانيا التي تربطها بها علاقات تاريخية وثيقة وتعتبرها خطاً أحمر، وسعى لتحويلها إلى دولة معادية.
لذا لم يكن أمام روسيا، هكذا تقول الرواية الروسية، سوى اللجوء إلى القوة المسلحة، من خلال “عملية عسكرية خاصة” تستهدف تحقيق أربعة مطالب:
1- تثبيت وضع القرم كجزء لا يتجزأ من الاتحاد الروسي.
2- الاعتراف باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك.
3- التعهد بعدم انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو.
4- الحصول على ضمانات موثّقة بوقف توسع حلف الناتو نحو الشرق، والتعهّد بعدم نشر أسلحة استراتيجية بالقرب من الحدود الروسية.
أما الرواية الأميركية فتحمّل روسيا وحدها كامل المسؤولية عمّا يجري من دمار على الساحة الأوكرانية، وتؤكد أنها لم تقدم على شنّ الحرب لمنع أوكرانيا من الالتحاق بحلف الناتو أو لإلزامها بتبنّي سياسة الحياد، بل لاستعادة عظمة وأمجاد الماضي، والعمل لإعادة بناء الاتحاد السوفياتي من جديد، حتى ولو تطلّب الأمر استخدام القوة المسلحة، وهو ما يعني أن الحرب على أوكرانيا ليست إلا بداية لسلسلة أخرى من الحروب، ولا يمكن للولايات المتحدة أن تقبل به أو تخضع له، ومن هنا قرارها بالمواجهة والتنسيق مع حلفائها، وخاصة الدول الأعضاء في حلف الناتو، للحؤول دون تمكين روسيا من تحقيق الأهداف التي تسعى إليها. وقد لجأت الولايات المتحدة في هذه المواجهة التي فُرضت عليها، أو هكذا تقول الرواية الأميركية، إلى وسيلتين رئيسيتين:
الأولى: فرض أقصى العقوبات الممكنة على روسيا لحرمانها الموارد اللازمة للاستمرار في الحرب.
الثانية: تزويد أوكرانيا بالسلاح الذي تحتاج إليه لمقاومة “الغزو” الروسي، مع الحرص في الوقت نفسه على تجنّب كل ما من شأنه الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة بين روسيا وأي من الدول الأعضاء في حلف الناتو.
في سياق كهذا، يبدو واضحاً أننا إزاء أزمة عالمية غير مسبوقة، طرفاها المباشران هما روسيا والولايات المتحدة، تديرها كل منهما بوسائل مختلفة. فروسيا، التي ترى أنها باتت تواجه تهديداً وجودياً بسبب إصرار حلف الناتو على التمدد شرقاً وتحويل أهم جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقاً إلى دولة معادية لها، لم تتردّد في استخدام القوة المسلحة، بل ذهبت إلى حدّ التهديد باستخدام الأسلحة النووية إذا تطلّب الأمر.
أما الولايات المتحدة، التي ترى أن روسيا تسعى من خلال الأزمة الأوكرانية إلى تغيير قواعد النظام الدولي الراهن بالقوة المسلحة وحرمانها الاحتفاظ بقيادتها المنفردة للنظام الدولي، فقد قررت الرد ومواجهة التحدّي الروسي بكل الوسائل الأخرى المُتاحة لها، مع الحرص في الوقت نفسه على تجنّب الاحتكاك العسكري المباشر. فما هو المسار الذي يُتوقع أن تسلكه الأزمة الأوكرانية في ظل هذه المعطيات؟
قد يكون من السابق لأوانه حصر التبعات كافة التي قد تسفر عنها الأزمة الأوكرانية، بينما أصوات المدافع لا تزال تدوّي. ومع ذلك، فإن المسار الذي سلكته الأزمة على مدى الأسابيع الخمسة السابقة يُوحي بسيناريوهات عديدة، يمكن تصوّر أهمها على النحو التالي:
السيناريو الأول: نجاح الولايات المتحدة وحلفائها في تحويل الحرب المشتعلة حالياً على الساحة الأوكرانية إلى عملية استنزاف طويلة المدى لروسيا. وفي هذه الحالة، تأمل الولايات المتحدة أن تؤدي العقوبات الهائلة المفروضة على روسيا حالياً ليس فقط إلى حرمانها الموارد التي تمكّنها من مواصلة الحرب، بل أيضاً إلى تأليب الرأي العام الروسي على نظامه الحاكم، وبالتالي إلى خلق متاعب لبوتين قد تؤدي في النهاية إلى إسقاطه. كما تأمل الولايات المتحدة أن تؤدي المعونات العسكرية الضخمة لأوكرانيا إلى تمكين هذه الأخيرة من الصمود إلى أن تتمكن العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا من إحداث الأثر المطلوب، وبهذا يصبح إلحاق الهزيمة الكاملة بروسيا هدفاً في متناول اليد.
غير أن حظوظ هذا السيناريو تبدو ضئيلة لأسباب كثيرة؛ فلدى روسيا ما يكفي من الموارد، ليس فقط للحدّ من أثر هذه العقوبات، بل للرد بعقوبات مضادة لا تقل تأثيراً، وخاصة على الدول الأوروبية، فضلاً عن أن دولاً مهمة لا يُستهان بقدراتها، مثل الصين والهند وإيران، والعديد من دول أميركا اللاتينية، رفضت الالتزام بهذه العقوبات، الأمر الذي سيحدّ كثيراً من تأثيرها. صحيح أن الإمدادات العسكرية المقدّمة إلى أوكرانيا قد تنجح في إطالة أمد الحرب قليلاً، لكنها لن تستطيع بأي حال من الأحوال إلحاق الهزيمة بروسيا، وخاصة في ظل تصميم بوتين على تحقيق الانتصار فيها، حتى لو تطلّب ذلك دفع الأمور نحو حافّة الهاوية واستخدام كل ما في حوزته من أسلحة متطورة للحؤول دون تكبّد عار الهزيمة.
السيناريو الثاني: نجاح روسيا في تحقيق انتصار عسكري يكفي لإجبار الحكومة الأوكرانية الحالية على الاستسلام والقبول بكل الشروط الروسية لوقف القتال. غير أن حظوظ هذا السيناريو تبدو أيضاً ضئيلة، وذلك لأسباب كثيرة، في مقدمتها: أن الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي لن تقبل به، حتى لو تطلّب الوضع دفع الأمور نحو حافّة الهاوية ورفع درجة الاستعداد النووي، وخاصة أن القبول به لن يكون له سوى معنى واحد، وهو فتح شهية روسيا إلى الحد الذي يغريها فعلاً بالعمل لإعادة إحياء الاتحاد السوفياتي، بكل ما ينطوي عليه ذلك من تغيير في موازين القوى لغير صالح الولايات المتحدة وحلفائها. فإذا أضفنا إلى ذلك أن مسار العمليات العسكرية على مدى الأسابيع المقبلة يُوحي بأن سيناريو الانتصار العسكري الساحق لروسيا لم يعد قابلاً للتحقيق الآن، لتبيّن لنا أن الأمور قد تتجه خلال فترة زمنية معقولة نحو البحث عن أرضية مشتركة وتنازلات متبادلة.
السيناريو الثالث: مواصلة الحرب إلى أن تنضج الظروف الملائمة لتسوية مقبولة من الأطراف كافة. وفي تقديري أن هذه التسوية يمكن أن تتحقق حين يقتنع الأطراف المتصارعون كافة بأن من مصلحة الجميع تقديم تنازلات متبادلة تضمن لروسيا الحصول على الضمانات الأمنية التي تريدها لإبعاد خطر حلف الناتو عن حدودها الغربية، وهو ما لن يتحقق إلا بالتزام أوكرانيا بسياسة الحياد والتزام حلف الناتو ليس فقط بعدم ضم أوكرانيا إلى صفوفه بل أيضاً بعدم نشر صواريخ استراتيجية قريبة من الحدود الروسية، وتضمن لأوكرانيا في الوقت نفسه سيادتها على كامل أراضيها، فيما عدا القرم، التي يصعب أن توافق على إعادتها إلى أوكرانيا، شريطة أن يضمن النظام الحاكم في أوكرانيا للأغلبية الناطقة بالروسية في إقليمي دونيتسك ولوغانسك حكماً ذاتياً كاملاً يمكّنها من إدارة شؤونها بنفسها، وشريطة أن توافق الولايات المتحدة وحلفاؤها في الوقت نفسه على الرفع الفوري للعقوبات. وفي ظني أن هذا السيناريو هو الأقرب إلى التحقق، وخاصة أن إطالة أمد العقوبات المفروضة على روسيا تهدّد النظام الاقتصادي العالمي كله، وخاصة الدول النامية.
وفي جميع الأحوال، وأياً كان السيناريو الأقرب إلى التحقق، يمكن القول إن النظام الدولي في مرحلة ما بعد الأزمة الأوكرانية سيكون مختلفاً تماماً عمّا كان قبلها. ولأن من الأرجح أن تفضي الأزمة الأوكرانية إلى إنهاء عصر الهيمنة الأميركية المنفردة على هذا النظام، نأمل أن تكون الظروف قد أصبحت مهيّأة أكثر للتفاوض بجدية حول نظام جديد للأمن الجماعي يكون أكثر فاعلية لنظام الأمن الجماعي المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة. لكن تلك قضية أخرى تستحق أن نخصّص لها معالجة منفردة!
الميادين نت