الأستاذ ممتاز البحرة، خطوطه ترسم في الضمير!
الأستاذ ممتاز البحرة، خطوطه ترسم في الضمير!
لم أكن أتوقع، أن يأتي الرسام الذي أحبه إلى قاعة الصف، ليعلمنا الرسم، فأساتذة الرسم عادة ما يتركون حصتهم للتسلية، وهذا ماخلق قطيعة بيني وبينهم، فأنا أحب الرسم، وعندما جاء الأستاذ ممتاز إلى إعدادية محمد محمود البزم في الجسر الأبيض كأستاذ للرسم، وقفت في المقعد الأخير لا أصدق : أيعقل أن يدرسنا الرسم : ممتاز البحرة؟!
كان ذلك في أوسط الستينات من القرن الماضي، وكنت قد صنعت “برواظا” من الكرتون للوحة اللاجئة التي نشرت على غلاف داخلي لأحدى المجلات، ولونتها وأنا أتمعن في توقيعه الجميل عليها، وكأنه يثني عليها : ممتاز !
كنت أراجع المكتبة الموجودة قرب بيتنا عدة مرات لأسأل عن العدد الجديد من مجلة “أسامة” فأتابع القصص المصورة المسلسلة فيها وأهمها شخصياته المطمئنة الواثقة بالغد. كان ممتاز البحرة يرسم في ضميرنا نحن الصغار، وعندما كان يحكي معنا، في قاعة الصف، كنا نتمعن في وجهه الذي رسمت عليه ابتسامة دائمة تحمل سحرا مأساويا غريبا، ونتجمع حوله ، فيعاملنا بصداقة.. وأنا كنت أتقرب منه دون تردد: ــ إي أستاذ ممتاز . أنا رسمت هذه .
وقدمت له قصة مصورة أريد أن أرسلها إلى مجلة أسامة: الرأس مدور، العينان مدورتان. الأنف مدور. الفم مدور. قال لي دون أن ينتبه إلى أن العبارة تعني اسمه أيضا: ممتاز!
وأضاف : ما تتخيله حلو، ولكن ارسم ماتراه.. لتتعلم ياابني!.
أرسلت رسالة إلى مجلة أسامة، وجاءني الرد إلى المدرسة في ظرف جميل يدعوني فيه إلى الرسم في المجلة، وعمري كان وقتها ثلاثة عشر عاما، وكان هاجسي دائما كيف يستطيع الأستاذ ممتاز أن يشكل شيئا ما من خط بسيط ، فإذا تمنت بأي خط وجدت أنه يشكل أنفا هنا، وابتسامة هنالك.. ياله من مدهش!
قلت لأخي إن الأستاذ ممتاز البحرة قال لي أن ما أرسمه حلو. فرد أخي مغتاظا : أنا سأرسم لك وتسأله عن رأيه، فسيقول لك إن رسمي أجمل، وربما نرسم معا في مجلة أسامة !
هكذا مات الأستاذ ممتاز ببساطة.. نحن لانستحق هذا الفنان الكبير. فنان لو كان في الغرب لصنعوا منه أسطورة في الرسم .فالأستاذ ممتاز خزان كبير من الصدق والانتماء كان ينبغي أن تؤسس الدولة عليه، إلا أننا لم ننتبه له حتى وهو في عزلته في دار المسنين في حي المزة الدمشقي .
كانت عزلته، وهو الأول على ما أعرف الذي ذهب إلى هناك : قبل علاء الدين كوكش ورياض ديار بكرلي وسعيد قطرية وغيرهم .. وربما أراد أن يحتج أو أن يعلن انفصاله عنا أو أن يعلن غضبه، وعندما سألوه كان سمح الوجه يبتسم دائما.. يالابتسامته ما أجملها!
هذا ليس مستغربا : لم نلتفت إليه، وكان هذا ارتكابا ثقافيا بشعا يشبه كل الارتكابات التي وقعت في زماننا بحق المثقفين والمبدعين والفنانين الذين يقدم لهم المسؤولون، قبل أن يموتوا بلحظات: ساعة حائط ويتصورون معهم!
توفي الأستاذ ممتاز (1938-2017)، مساء الاثنين السادس عشر من كانون الثاني 2017، وكان مريضا، ولم تكن هويته الفنية بحاجة إلى تعريف حتى في العالم لكي ننتبه إلى مرضه وعنفوانه ، فقد عرف العرب والسوريون الكثير من من شخوصه، وقليل من كتب العرب المدرسية التي نجحت في إنشاء علاقة بين رسومات صفحاتها والتلاميذ تشبه تلك التي رسمها الأستاذ ممتاز في مناهجنا.
نقرأ عنه، في الشبكة العنكبوتية، فإذا هو ” ترك إرثاً من رسومات الكاريكاتير التي تسببت في الحكم عليه بالإعدام في ستينيات القرن الماضي، فضلاً عن رسومات بانورامية أبرزها لوحة “ميسلون” المعروضة في بانوراما الجندي المجهول على سفح جبل قاسيون بمدينة دمشق، ومشاركته في تأسيس أهم مجلات الأطفال بسورية، كمجلتي “أسامة” و”سامر”.
وتقول عنه المواقع الإلكترونية: إنه ينتمي إلى عائلة دمشقية معروفة، لكنه ولد في مدينة حلب بتاريخ 9 مايو/أيار 1938، حيث كان يعمل أبوه، محمود البحرة، مفتشاً لمادة التربية الرياضية بحلب وقتذاك، وعاش أحزانا متتالية بفقد والده ثم وفاة أخيه خلال سفره للدراسة في ألمانيا، لينطبع بمسحات من الحزن، كان يلمسها المقربون منه رغم إيثاره ألا تتجلى في لوحاته.
درس البحرة الفنون في مصر، إبان الوحدة، لكن وفاة والده في السنة الدراسية الرابعة والانفصال بين الإقليمين حالا دون إنهاء دراسته في مصر، ليعود إلى سورية ويكمل بكلية الفنون بجامعة دمشق.
تربى ممتاز البحرة في بيئة دمشقية أرستقراطية محافظة وهو أكبر أخوته، وقد عاشت العائلة أغلب الوقت في منطقة شعبية من مدينة دمشق لتنتقل فيما بعد إلى حي المهاجرين الحديث نسبياً في ذلك الوقت.
” عمل في الصحافة فكان يقوم برسم الكاريكاتير والرسوم المصاحبة في الجرائد اليومية والمجلات ..
في بداية الثمانينات كان قد اعتزل رسم الكاريكاتير بعد أن تعرض لعدة مضايقات وتهديدات من مجهولين طالت عائلته وشخصه بالإضافة لتدخلات من مدراء التحرير لتعديل حدة الكاريكاتيرات إلا أن أحداث الانتفاضة في الأرض المحتلة قد دفعته للعودة مجدداً لعالم الكاريكاتير فقام بتنفيذ معرض كاريكاتيري في دمشق عن الانتفاضة ومعاناة أهلنا في فلسطين والأراضي المحتلة.